تنشر "العربي الجديد"، على دفعات، ترجمة الشاعر والروائي والناقد الفلسطيني محمّد الأسعد لكتاب "مدن غير مرئية" لـ إيتالو كالفينو. يعدّ العمل من آخر ما ترجمه الأسعد، وقد حال رحيله المفاجئ، الشهر الماضي، دون نشره في كتاب حتى الآن.
وليس هذا الكتاب العمل الوحيد لكالفينو الذي نقله الأسعد (1944 ـ 2021) إلى العربية، إذ سبق أن عرّب للكاتب الإيطالي سلسلة محاضرات صدرت عام 1999 بعنوان "ستّ وصايا للألفية القادمة". إلى جانب تجربته في الشعر والرواية، ثمّة في رصيد الأسعد العديد من الترجمات البارزة، من آخرها ترجمته لرواية "الشياطين" لدوستويفسكي، التي صدرت قبل أسابيع من رحيله.
مفتتح
لا يصدّق قبلاي خان بالضرورة كلّ شيء يقوله ماركو بولو حين يصف المدنَ التي زارها في جولاته الاستكشافية، إلا أن إمبراطور التتار يواصل الإصغاءَ إلى الفينيسي الشاب بانتباهٍ وفضولٍ أعظم مما يُظهر لأي رسولٍ آخر من رسلهِ أو مستكشفيه.
في حياة الأباطرة، هنالك لحظة تتبع الزهوَ بالاتساع اللامحدود للأراضي التي غزوناها. وبعد راحةِ وكآبة معرفةِ أننا سرعان ما سنتخلى عن أي تفكير بمعرفتها وفهمها. هنالك إحساس بالفراغ يطغى علينا مساءً، مع رائحة الفيلة بعد المطر، ورمادِ خشب الصندل وهو يبرد في المجامر، دوارٌ يجعل الأنهار والجبال تهتزّ على منحنياتِ خرائط الكرة الأرضية السمراء الضاربة إلى الصفرة حيث ترسم مصوّرة، وتُجمع. واحدة بعد أخرى تتوالى الرسائلُ معلنة لنا انهيارَ آخر قوّات العدو. من اندحار الى اندحار. ويُقشّر شمع أختام رسائل ملوكٍ مغمورين يلتمسون حماية جيوشنا، مقدمين في المقابل أتاواتٍ سنوية من معادن ثمينة وجلود مدبوغة وأصداف سلاحف. إنها لحظة القنوط حين نكتشف أن هذه الإمبراطورية، التي بدت لنا خلاصة كل الأعاجيب، ما هي إلا خرابٌ لا شكلَ له ولا حد، أن غنغرينا الفساد تنتشر إلى مدى يفوق قدرة صولجاننا على علاجها، أن الانتصار على الملوك الأعداء جعلنا ورثة خرابهم الطويل.
في تقارير ماركو بولو وحدها كان قبلاي خان يستطيع أن يميّز، خلال القلاع والأسوار التي قدّر لها أن تتفتت، زخرفةً شجرية لمخططٍ بلغ من الرهافة حداً قد يمكّنهُ من النجاةِ من قضم النمل الأبيض.
مدن وذاكرة (1)
حين تغادر، وتواصل السيرَ طيلة ثلاثة أيام نحو الشرق، تصل إلى ديوميرا، مدينة بستّين قبّة فضّية، بتماثيلَ برونزية لكلّ الآلهة، بشوارعَ مرصوفة بالرصاص، بمسرحٍ بلّوري، بديكٍ ذهبيّ يصيح كلّ صباح فوق برج.
كلّ هذه المفاتن ستكون مألوفةً سلفاً للزائر الذي شاهدها أيضاً في مدن أخرى. ولكن الخاصّية المميّزة لهذه المدينة بالنسبة إلى المرءِ الذي يصل إليها ذات أمسية من أماسي أيلول/ سبتمبر، حينما تتقاصر النهاراتُ، وتُضاء المصابيحُ المتعدّدة الألوان كلّها دفعةً واحدة عند أبواب جواسق الطعام، ويصرخ صوتُ امرأة من سطح بيت: "أووه..."، هو شعوره بالحسد تجاه الذين يعتقدون الآن أنهم عاشوا مرّة ــ من قبلُ ــ أمسيةً تُماثل هذه، والذين يعتقدون أنهم كانوا سعداء آنذاك.
مدن وذاكرة (2)
حين يرتحل إنسانٌ زمناً طويلاً راكباً عبر مناطق برّية، يشعر بالرغبة بمدينة. وفي نهاية المطاف يصل إلى إيسيدورا، مدينة حيث للمباني سلالمُ لولبية ملبّسة بقشرةٍ من أصدافٍ بحرية لولبية، حيث تُصنع المناظيرُ المقرِّبة والكماناتُ المتقنة، حيث يواجه الأجنبيُّ المتحيّرُ بين امرأتين ثالثةً دائماً، حيث ينحدر عِراكُ الديكة إلى مشاجراتٍ دموية بين المتراهنين.
كان يفكّرُ بكلّ هذه الأشياء عندما رغبَ بمدينة. لهذا فان إيسيدورا هي مدينة أحلامه: مع فارق واحد. المدينة المحلوم بها احتوته شابّاً؛ وهاهو يصل إلى إيسيدورا في شيخوخته. في الساحة هنالك الجدار حيث يجلس العجائز ويراقبون الشبّان يمرون؛ وهاهو جالسٌ معهم في صفٍّ واحد. الرغباتُ الآن ذكريات.
مدن ورغبة (1)
هنالك طريقتان لوصف مدينة دوروثا: يمكنكَ القول إن أربعة أبراج من الألمنيوم ترتفع من أسوارها مطوّقةً سبعةَ أبوابٍ ذات قناطر متحرّكة تعمل بنوابضَ تمتدّ فوق الخندق الذي تغذّي ماءه أربعُ قنوات خضراء تخترق المدينة، مقسّمةً إيّاها إلى تسعة أحياء، في كلّ واحد منها ثلاثمائة بيت وسبعمائة مدخنة. ومحتفظاً في ذهنكَ أن الفتيات الصالحاتِ للزواج في كلّ حيّ يتزوجن شبّانَ الأحياء الأخرى وتتبادل عائلاتهنّ السلعَ التي تحتكرها كلّ عائلة ـ ليمونٌ لصناعة العطور، بطارخُ سمك كافيار، إسطرلابات، أحجارُ الجمشت الكريمة ـ عندئذ يمكنكَ العمل انطلاقاً من هذه الوقائع، إلى أن تعرف كل شيء ترغب فيه عن المدينة في الماضي والحاضر والمستقبل.
أو يمكنكَ خلاف ذلك القول، مثلما قال الجمّالُ الذي أخذني الى هناك: "وصلتُ هنا في مطلع شبابي ذات صباح، حيث كان العديدُ من الناس يهرعون إلى السوقِ قادمين من كل الشوارع، وامتلكتِ النساءُ أسناناً جميلة ونظرن في عينيكَ مباشرة، ونفخ ثلاثة جنود على منصّةٍ بالأبواق، وفي كلّ جهةٍ دارت عجلاتٌ ورفرفت راياتٌ ملوّنة في الريح. قبل ذلك لم أعرف إلّا الصحراءَ وطرقَ القوافل. في السنوات التالية، عادت عيناي الى تأمّل آمادِ الصحراءِ وطرقِ القوافل؛ ولكنّني أعرف الآن أن هذا الطريقَ ليس إلا واحداً من الطرق العديدة التي انفتحت أمامي في ذلك الصباح في دوروثا...".
مدن وذاكرة (3)
سأحاول، عبثاً، يا قُبلاي، يا ذا القلب الكبير، وصف زهرة، مدينة الحصون العالية. يمكنني أن أخبركَ كم من الدرجاتِ تجعل الشوارعَ ترتفع مثل السلالم، ودرجةَ انحناء الممرّاتِ المقنطرة، وأي نوعٍ من صفائح الزنك يغطّي السطوح؛ ولكنّني أعرف مقدّماً أن هذا سيكون كما لو أنّني لا أُخبركَ بشيء. المدينةُ لا تتكوّن من هذا، بل من العلاقاتِ بين قياساتِ فضائها وأحداثِ ماضيها: ارتفاعُ عمودِ نورٍ والمسافة بين الأرض وقدمين متأرجحتين لمغتصبِ عرشٍ مشنوق؛ الحبلُ المشدود من عمود النور إلى حاجز الشرفة المقابل وحبالِ الزينة التي تزيّن مسارَ موكب زفاف الملكة؛ ارتفاعُ ذلك الحاجز وقفزة الزاني الذي تسوَّرَهُ فجراً؛ انحدارُ مزراب وسَيْرُ قطٍّ على طولهِ وهو ينزلق داخلاً عبر النافذة نفسها؛ مدى مرمى نيرانِ زورقٍ مسلّحٍ ظهرَ فجأةً من وراء الرأس البحري والقذيفة التي دمّرت المزراب؛ والفتوقُ في شِباك صيد الأسماك والعجائز الثلاثة الجالسين على رصيف المرسى يُصلحون الشِباكَ ويقصّ أحدهم على الآخر للمرّة المئة حكاية زورقِ مغتصبِ العرش المسلّح الذي يقول البعض إنه كان ابن الملكة غير الشرعي وقد هُجر هنالك على المرسى بقِماطه.
وفيما تتدفّق هذه الموجة من الذكريات إلى الداخل، تمتصّها المدينةُ مثل إسفنجةٍ وتتّسع. إن أي وصف لزهرة كما هي عليه اليوم، يجب أن يحتوي كلّ ماضي زهرة، إلّا أن المدينة لا تقصّ حكاياتِ ماضيها، ولكن تحتويها مثل خطوطِ راحة يدٍ، مكتوبة في زوايا الشوارع، شعريات الشبابيك الحديدية، حواجز الدرجات، هوائيات مانعات الصواعق، صواري الأعلام، ومن جانبها تحمل كلّ قطعة علائمَ خدوشٍ، فجواتٍ عميقة، لفائف.
مدن ورغبة (2)
بعد انقضاء ثلاثة أيام على مسيركَ نحو الجنوب، تصلُ مصادفةً إلى آناستاسيا؛ مدينة ترويها قنواتٌ ذات مركز واحد، وتحلّق فوقها طائراتٌ ورقية. عليّ الآن تعداد البضائع التي يمكن أن يكون شراؤها مُربِحاً هنا: يَشَبٌ وجَزْعٌ وأحجارٌ كريمة فاتحة الخضرة وتنويعاتٌ أخرى من العقيقِ الأبيض؛ وعليّ امتداح لحمِ التدرج الذهبي المطبوخِ هنا على نيرانِ خشبِ كرزٍ موسميّ والمرشوش بسمسقٍ بالغ الحلاوة، والتحدّث عن النساء اللواتي رأيتهنّ يقمن بالاستحمامِ في بركةِ بستان، واللواتي يدعين الغريب أحياناً، كما يُقال، ليتعرّى معهنّ ويطاردهن في الماء. ولكن مع كل هذا، لا أكون قد حدّثتكَ عن جوهر المدينة الحقيقي؛ لأن وصف آناستاسيا، إذا كان يوقظ واحدةً من الرغبات في كلّ مرّة لا لشيء إلّا لإجباركَ على إخمادها، فإنّ كلّ رغباتكَ تستيقظ دفعة واحدة وتحيط بكَ حين تكون ذاتَ صباحٍ في قلبِ آناستاسيا. حيث تبدو لك المدينةُ كلّاً كاملاً، وحيث لا تضيع رغبة، وحيث أنتَ جزءٌ من الكلِّ، وبما أنها تستمتعُ بكلِّ شيءٍ لا تستمتع أنتَ به، فبإمكانك ألّا تفعل شيئاً سوى أن تقيم في هذه الرغبة وأن تكون مكتفياً.
تلك هي السلطة، أحياناً تُدعى مؤذيةً وأحياناً حميدة، السلطةُ التي تمتلكها آنستاسيا، المدينة الغادرة؛ لو اشتغلتَ طيلة ثماني ساعات يومياً كقاطعِ يشبٍ، وجَزْعٍ، عقيقٍ أبيض، فإنّ عملكَ الذي يمنح الرغبةَ شكلاً، يأخذ من الرغبة شكلها، وتعتقد أنّكَ تتمتّع بآناستاسيا استمتاعاً كاملاً بينما أنتَ لست إلاّ عبدها.
* ترجمة: محمّد الأسعد