يقدّم الباحث الجزائري مختار زواوي في كتابه "مسائل في اللسانيات وعلم العلامات: قراءة في نصوص فردينان دو سوسور"، الذي صدر حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، دراسةً في مجموعات خمس من أعمال اللغوي السويسري الجديدة في اللسانيات العامّة عُثر عليها عام 1996 ونُشرت في عام 2002.
يتألّف الكتاب من قسمين؛ يعالج الأوّل عددًا من المسائل المرتبطة بإبستيمولوجيات اللسانيات ونَسَق دو سوسور الفكري؛ مثل مسألة ترتيب مقولاته اللسانية في نسق، وطبيعته، وتصوّرات دو سوسور في فلسفة اللسانيات، وميتافيزيقا العلامة، والتجريد، والثنائيات، ومبدأ المخالفة. أمّا في القسم الثاني، فقد أفرد الباحث لكلّ مجموعة من مجموعات النصوص الخمس فصلًا خاصًّا، قصْد التعريف بمضامينها والمسائل التي نظر فيها دو سوسور، وهي: مسائل في سؤال البدايات، ونقد النحو المقارن والطريقة المقارنة، والمنهج واللغة الواصفة، والسيميولوجيات والتوزيع الجغرافي للألسن، والخطاب.
غالباً ما يرتبط مفهوم النسق في تلقّي فكر دو سوسور اللغوي باللسان، ويكاد لا يختلف اليوم اثنان في أمر هذه الحقيقة؛ حقيقة أن الألسن جميعها أنساق من العلامات. لكنّ الحديث عن هذا المفهوم ليس لكونه مؤسِّسًا لطبيعة الألسن فحسب، بل لكونه مؤسِّسًا للفكر اللساني السوسوري أيضًا، بدليل قول دو سوسور وهو يصف مجهودات أوغست شلايشر المُقارنِة: "إن النسق، حتى وإن جرى من بعدُ التخلّي عنه، أحسن من جملة من المفاهيم الغامضة"، وهو الموقف الذي عقّب عليه إنغلر قائلًا: "إن النسق، أو النزوع نحو النسق، ليس سوى مطلب إنساني للمعنى، وللنظام الذي يُمارَس على المادة، ويمكّن من إجراء التصحيحات اللازمة إنه مبدأ منهجي"، بحسب ما ورد في بيان المركز.
يقدم الكتاب دراسة في أعمال للغوي السويسري عُثر عليها عام 1996 ونُشرت عام 2002.
ويشير البيان ذاته إلى أنه كثيرًا ما تداول الفلاسفة مفهوم النسق منذ عصور مضت، بل إنهم اتخذوه عنوانًا لمؤلّفاتهم أو أجزاء منها؛ كما هو الشأن، مثلًا، عند كارل فون لِيني، أو عند إيتيان كوندياك، أو غيرهما، حتى جاء أندريه لالاند فأحصى له دلالتين، ترتبط أولاهما بطبيعة المجموعة من العناصر، أو الأشياء، حيث قال: "إن النسق هو مجموعة من العناصر، مادية كانت أو غير مادية، تتعلق إحداها بالأخرى"، ومثّل له بعبارات وهي الدلالة التي عبّر عنها الباحثون المحدثون العرب بكلمة "النظام" فقالوا: النظام الشمسي، وكلمة "الجهاز" فقالوا: الجهاز العصبي، وكلمة "النسق" فقالوا: نسق من ثلاث معادلات. أمّا الدلالة الأخرى فترتبط بطبيعة الأفكار، وقد قال بشأنها: يدلّ مصطلح النسق خصوصًا على "مجموعة من الأفكار العلمية أو الفلسفية المتصلة في ما بينها اتصالًا منطقيًا؛ لا من حيث صدقُها، بل من حيث التجانس القائم بينها"، مستقيًا هذه الدلالة من تعريفٍ لمفهوم النسق قدّمه كوندياك بالقول: "إن النسق ليس سوى انتظام مختلف أجزاء فن ما أو علم ما، وفق نظام يستند بموجبه كلّ جزء إلى الأجزاء الأخرى، فيفسّر آخرها أولها".
ويوضّح الكتاب بأن إبستيمولوجيات دو سوسور باتت منذ نهاية القرن الماضي ومطلع هذا القرن، موضوع بحث ونظر من الباحثين المحدثين. وعلى الرغم من اختلاف تأويلات هؤلاء الباحثين وتنوّع تفسيراتهم، فإنهم اشتركوا في وضع كتاب محاضرات في اللسانيات العامة المنسوب إليه جانبًا، وأقبلوا على نصوصه المنشورة عام 2002، ومخطوطاته التي كانت، أو ما زالت، مودعة في مكتبتَي "جنيف" و"هارفرد"، يستخرجون منها ما بدا لهم منها خليقًا بأن يصنَّف في دائرة الإبستيمولوجيات. صحيح أن الكتابات أو المخطوطات لا تشتمل على كلمة الإبستيمولوجيات، لكن تأملات دو سوسور وأفكاره التي عبّر بها في هذه النصوص عن منهجه وموضوع العلم الذي أسست له، أو تلك التي أودع فيها نقوده للنحو المقارن، كلّها أفكار من شأنها أن تُنزَّل منزلة الأفكار الإبستيمولوجية؛ إنها أفكار في فلسفة العلم والمعرفة.
ويلفت إلى أن مخطوط دو سوسور احتفظ بتصوّر أصيل لهذا المشروع، حيث لا يقيم بين اللسان والكلام حدودًا فاصلة. وفي هذا المخطوط، يكشف دو سوسور عن تصور سيميولوجي لا نجد له مثيلًا في كتاب محاضرات في اللسانيات العامة، وهو في شكل معادلة على النحو الذي يلي: "السيميولوجيات = المورفولوجيات، النحو، التركيبيات، الترادف، البلاغة، الأسلوبيات، المعجميات ... إلخ، الكل متصل"، وهي معادلة تؤسّس لوحدة لا انفصام لها، في إطار السيميولوجيات اللسانية، بين فروع اللسانيات المعهودة من مثل المورفولوجيات والمفرداتيات والتركيبيات والدلاليات، وهي علوم تُعنى بدراسة اللسان، وعلوم أخرى تتّصل بدراسة الكلام؛ مثل البلاغة، والأسلوبيات، وغيرها. وهذا التصور ينسجم غاية الانسجام مع تصور دو سوسور للسانيات، على نحو لا يمكن الفصل فيه بين لسانياتٍ للسان ولسانياتٍ للكلام، خلافًا لِما روّج له كتاب "محاضرات في اللسانيات العامّة" المنسوب إلى دو سوسور.