كنّا خمسة عند مغادرة أولان باتور. حصانان وثلاثة رجال. التحق بنا المُصوِّر توما غواك مساء الأمس جوًّا. هو أيضًا سيقضي بعض الأيّام في عُمق السّباسب لحصد صور. توما لا يُشبه أورغن. هو يتحدّر من أسرة بيكارديّة ولا شكّ أنّه أخذ من تعلّقه بالأرض هذه الكيفيّة الثّقيلة نوعًا ما في المشي وكأنّ قدميه تتركان الأرض على مضض. ولكنّي لم أسمعه عند الصّعاب يُبدي أيّ شكوى، ذلك أنّه يعتبر العدول نوعًا من الخيانة. حين ينتابه الشّكّ في قدرته على مغالبة عائق مادّيّ، يلوذ عن طيب خاطر إلى قولة بيغي: "التّفكير هو بداية الاستسلام". بالإضافة إلى سلافومير جاء حصان ثانٍ اشتريته مع نيكولا في سوق دوابّ قبل يومين لحمل العدّة: كاميرا، وآلات تصوير، وعدسيّات مرئيّة.
ودّعنا أمارا التي سنلتقي بها ذات يوم عند مثوى شارلمان. أسرجنا سلافومير، وبرذعنا الحصان الجديد وسِرنا نحو جسر مُقام شمالي المنطقة الصّناعيّة لأولان باتور، قرب معمل طاقة حراريّة. كانت المداخن تنفث السّواد. لا البارون ولا الخوتوختو (البوذا الحيّ المنغوليّ)، كانا يتصوّران أنّ غمامة تلوّث (ظلّ التقدّم) سوف تُكلّل يومًا أورغا. نزلنا على الضّفّة الأُخرى لوادي تول. للوصول إلى السّباسب المركزيّة الكبرى التي أروم بلوغها، صعدنا المجرى المائيّ مسافة مائتي كيلومتر طيلة خمسة أيّام. اليوم الأوّل كان مُخصّصًا تحديدًا لحفظ الخرج الجلديّ السّميك المملوء حتّى الفم بعشرات الكيلوغرامات من العدّة على ظهر الحصان الجديد.
وادي تول سوف يقنع أيًّا كان بأنّ "طرق الحرّيّة" سبل رائعة. ولكن هل يمكن أن تكون الطّريق التي تقود إلى الحرّيّة غير جميلة؟ أشعّة الشّمس، التي ترشح عبر مشكال الغيوم المتحرّكة ترسل على التّلاع البرّيّة أضواء التّكوين وتُغرق أحيانًا نصف المنظر الطّبيعيّ في الظّلمة بينما يلتفّ النّصف الآخر بالذّهب قبل أن ينطفئ بغتة. سرنا كيلومترات كاملة في الحلفا، تجلدها هولُ رياح مسترسلة.
عواصف بداية الشّهر رفعت منسوب المياه في الوادي. ذُعرنا يوم تقلّعت برذعة الحصان ونحن نحاول اجتياز شعفة شاقوليّة يلحس الوادي قدمها. توصّلنا إلى تصليح الأضرار بحبال رفع وجديلات، ثمّ عدلنا عن المرور من المعابر، فاجتزنا ظهر الجرف عبر درب مُحصّب قبل النّزول إلى التعرّجات المزدانة بمخمل مرج في خضرة السّباسب. خيام لبْد نادرة تنبو في الأفق، تبشّر بالدّفء والرّاحة. سوف نحتمي بها حين يهبط اللّيل، فنتقاسم التّربة كيفما اتّفق مع الأطفال وعناكب الحقول التي أخشاها أكثر من أيّ شيء آخر.
في الأماسي الأُخرى، أقمنا خيامنا على حافة الوادي، وأوقدنا نيرانًا تثقب الضّباب الغسقيّ ذا الهالات البرتقاليّة. أوشحةُ السّديم المتصاعدة من تيار تول السّاخن تزحف على الضّفّة، وتنسلّ في الآجام وتتملّك باللّيل تملّكًا يجعلنا نستيقظ عند الفجر على مشاهد أخّاذة، ونجد صعوبة في التّعرّف على جسدي حصانينا خلف أسمال بخار الماء. بل يحدث أحيانًا أن يرتفع منسوبُ الماء في اللّيل فنجد أنفسنا عند تنفّس الصّبح مُحاطين على جزيرة، سجناء ساعد من فضّة ينبغي اجتيازُه من معبر لاستئناف السّير. في المساء، عادنا زوّار: كلاب متوحّشة اقتربت وجعلت تعوي كالذّئاب، بل ولعلّها ذئاب فعلًا. مرّة أُخرى، تحت النّجوم، جاء قطيع خيول يسأل سلافومير عن نوايانا. وذات يوم، برز شابّ مغوليّ رابط الجأش، "إيستيريك"، في حلقة نارنا يسبقه حداء يرفعه بأعلى صوته، وجلس حولها دون كلمة، وقبِل قهوتنا قَبل أن يُعلن أنّه يريد أن يبيعنا حصانه الأبيض (قايضناه في نهاية الأمر بدابّة أحمالنا).
العاصفة التي لحقت بنا ذات مساء قبل أن نفلح في بلوغ ملاذ بخيمة لبد حرثت السّماء، وأدمت الأفق، وأخيرًا أراحت حُمّاها بسكْبِ مطرها علينا، بعنف شبيه بوابل سياط على حصان.
أقمنا أودنا بأكل زادنا الهزيل الذي حملناه في الخرج، وحالُ خَوَر خفيفة تُوتّر أعصابنا، ما سمح لنا بتذوُّق شعر السّاعات التي قضيناها في جوّ تول الغريب والمضيء بشكل أفضل. غادرنا الوادي باتّجاه قرية بورن التي بلغناها في مساء اليوم السّادس بعد أن خيّمنا بمتعة في سبسب ذي خضرة برونزيّة مشوب بزئبر أبيض تشي رائحته بثوم برّيّ. القرية تشبه كلّ الكفور المنغوليّة، المقامة حسب هوى التّاريخ على صدف الجغرافيا: جمع من البيوت الخشبيّة، بعض خيام لبديّة، كلّها محاطة بالأسيجة. ثنيّتان متقاطعتان تعبرانها، يلعب عليها أهاليها بالكرة في صغرهم، ويدوسونها في كبرهم، ويعرجون عليها في نهاية أعمارهم. ترفرف في كفور الشّرق الأقصى تلك رائحة يأس وضنى وذهول أمام اختيار الموقع: "لماذا هنا؟" الفرق بين هذه القرى والمخيّم أنّ الأولى لن تُرفع أبدًا...
في بورن، ودّعنا نيكولا الذي سيعود إلى فرنسا عبر أولان باتور حيث سيقوده قرويّ على متن فاز روسيّة قديمة يرجع عهدها إلى السّنوات الحمراء. أمّا أنا وتوما، فقد تركنا حصانينا لدى مُربّيي ماشية مستقرَّين وذهبنا على متن فاز يقودها سائق شابّ للبحث عن إحدى عثرات قضيّة رافيتش.
هي ذي الشّوكة: البولنديّ كتب في المسير الطوّيل أنّه ثبت في صحراء غوبي أكثر من عشرة أيّام دون أن يشرب (هراء)، ولكنّه - وهذا هو الأدهى - وصف الصّحراء المنغوليّة بكونها مُحيطًا من الكثبان. أرضٌ مترامية من الرّمل. نسخة مطابقة للعِرق الصّحراوي الكبير. بيد أنّ هذا التّشبيه يثير حفيظة علماء الجغرافيا الذي يعرفون أن غوبي هي أُحدورٌ نصف قاحل يمنح عناصر السّماء غطاء سباسبَ مهزولةٍ أو ركامِ حصى أجردَ مسودٍّ. لتجويد الوصف العلميّ لتضاريس الأرض، تنبغي الإشارة أيضًا إلى كتل صخريّة، نوع من الحصون الحجريّة التي تستريح تحت أقدامها عيون الماء. أمّا الكثبان، فلا وجود لها. وبالأحرى هي نادرة جدًّا. وإن وُجدت، فهي من قبيل غرائب الجيولوجيا.
أعرف أنّ في جنوب البلاد يعلو أحد هذا الشّذوذ: كعكة من الرّمل موضوعة على القاعدة. لا يبلغ عرضها بين الشّمال والجنوب سوى عشرة كيلومترات، وتمتدّ طولًا على أكثر من مائة كيلومتر. هي إذن خيط كثبانيّ يقطع كلّ متوجّه إلى الجنوب. ولكن إن صحّ أنّ رافيتش اجتاز هذا العائق الصّغير، فليس ثمّة ما يُبرّر أنّ وصْفَه حصَرَ وجهَ غوبي في بحر من الرّمل. نثار البارود ذاك، الذي نسيه التّاريخ على قاعدة قاحلة، هو الذي نريد ملاحظته. لن تكون الرّحلة سوى "ذهاب – إيّاب" سريع. ثمّ يعود توما إلى باريس وأستعيد أنا الحصانين في بورن.
آلت نزهتنا إلى كارثة. سائق الفاز الشّابّ، الذي تعوّد على التّطواف في أحياء أولان باتور الرّاقية أكثر من تعوّده على السُّموت الممتدّة في البراري، ضلّ سبيله. عُذره أنّ السّباسب قاسية على من لا يملك حسّ الاتّجاه، تلك الهبة الكوكبيّة التي يتقاسمها الرُّحَّل بالتّساوي مع خيولهم. كنّا ندور حول أنفسنا وسط الأعشاب. تسلّقنا النّتوءات لاعتقادنا، وفق فكرة مُسبقة مكينة، أنّ الرّؤية من أعلى تلّة سوف تكشف عن أخبار جيّدة... تُهنا تحت سماء في مثل توحّد السّهل الذي هو مرآتها. أخيرًا وجدنا الوادي المنشود وسرنا نحو الجنوب حتّى المساء. خَشُن السّبسب، وامّحى تدريجيًّا، وصار غوبي. كان النّهار يموت في أزليّة الصّحراء وهدير المحرّك. استطاع السّائق أن يحقّق أعجوبةَ سُيوخِهِ في غدير الوحل الوحيد في صحراء غوبي: حوض من الأرض الطّينيّة احتفظ بماء الأمطار الأخيرة. اندفع إليه مباشرة، ووقعت السّيّارة في الصّلصال حتّى قاعدة الهيكل. قضينا اللّيل في العراء. عند الفجر، فاجأنا السّائق (الذي كان حقًّا دون مستوى الوضع بكثير)، يغتسل بآخر لتر من مائنا الصّالح للشّرب. مرّت أربع وعشرون ساعة. قُمنا عبثًا ببعض محاولات تخليص السّيّارة من الوحل بأيدينا (لم يكن لدينا حتّى رفش).
كنّا قد بدأنا نثُير فرضيّة إدراك قرية تبعد ستّين كيلومترًا مشيًا على الأقدام ودون ماء، تدخّلت العناية الإلهيّة فأرسلت إلينا صدفة شاحنة غاز بعشر عجلات تحمل أعضاء بعثة علميّة: ستّة علماء حياة النّبات روس من "جامعة إيكاتيرنبورغ". تأكّدنا مرّة أُخرى من الدّليل القائل بأنّه يكفي أن نتوقّع أنّ الرّوس قادمون كي يتسارع مجرى الأحداث. رمى إلينا ساشا، سائق الشّاحنة الذي لم يكن يلبس غير مايوه وجزمتي صيد، بكبْل فاستطاعت شاحنة غاز أن تخلّص سيّارة الجيبْ من غلافها، وسط شظايا أوحال، بينما كانت كبيرة المجموعة، المتخصّصة في المبادلات اليخضوريّة، واقفة وسط الغدير الطّينيّ، معتمرة قلنسوة شاطئ عريضة، تعرض على زملائها ملاحظاتها حول النّبتة السّبخيّة التي اكتشفوها في المَوحل، غير مبالية تمامًا بعمليّة إنقاذنا.
قضينا نهارين في استكشاف الكثيب. في أسفله: عين ماء تزدهر حولها جمال باكتريان ومخيمّات ناجعة. قادتنا مائتا متر انتزعناها بصعوبة من منحدر رمليّ دقيق إلى القمّة. وفي كلّ خطوة، تنهار ألسنة صافية تتدحرج في انهيارات صغيرة. وكانت طبقات الرّمل، إذ تنزلق على سطح الرّمل الذي ظلّ ثابتًا، تُحدث نشيشًا لا يلبث أن يتحوّل ببطء إلى تذبذب يصّاعد ليملأ الجوّ بهدير أكمد وكأنّ الرّيح تطنّ في قيثارة سلتيّة أهملها شاعر غنائيّ على أحد نجود هايلاندز. علماء تضاريس الأرض يطلقون على ظاهرة الانزلاق تلك "انزلاق تربة مشبعة بالماء". أمّا موسيقى الرّمل فلا اسم لها، ولكنّنا نلمس فيها "أنشودة الكثبان"، الشّبيهة بصيحة حيتان العنبر، التي أقنعت كم من مسافر ضالّ في طرق الحرير أنّ وراء ظهرها ترود أحلام وتنانين. الخرافة لا تبعد كثيرًا عن انزلاق التّربة.
النّتوء النّهائي للكثيب كان حادًّا كالشّفرة. نحو الغرب يتوارى في الأفق البعيد خيط موجة الرّمل. ونحو الشّرق يتراكم شريط من الكثبان الصّغيرة بطول عشرات الكيلومترات ثمّ، أبعد منه، تستعيد الصّحراء المسودّة حقوقها وتنشر بساطها حتّى الصّين. خيّمنا في سطيحة رمليّة، مندسّين في المنحدرات الجنوبيّة، تحت النّتوء بالضّبط. في منتصف اللّيل، هبّت العاصفة. صفائح رمل انتزعت من النّتوء ردمتنا تدريجيًّا. وكان علينا أن نخلّص أنفسنا كلّ ربع ساعة من الرّمل الذي يعلو مثل مدّ سيّئ. في الصّباح هدأت الرّيح. أخرجنا أمتعتنا المردومة تحت متر من الرّمل. أكّد الفجر ما تراءى لنا بالأمس. لم يكن الكثيب سوى خيط رفيع. حادث رمليّ نهض على ركام حصىً أجرد.
بعد أربع وعشرين ساعة، في 30 آب/ أغسطس، كان توما في الطّائرة باتّجاه باريس، بينما غادرت أنا بورن على صهوة سلافومير، أمسك بعنان الحصان الأبيض الذي لم أجد له اسمًا بعد.
أوغلت، في هذه اللّحظة التي عدت فيها إلى الوحدة، في ممرّ طويل من النّهارات المتماثلة التي سوف تقودني عبر بطن السّباسب إلى غوبي. عندما أصل إلى الحواشي الشّماليّة للصّحراء، سأقرّر أن أواصل ممتطيًا حصاني أو أمشي على القدمين. ثبّتُّ إلى سرجي جراب مؤونة لا تتلف وصفيحة بخمسة لترات من الماء، إضافة إلى لترات ثلاثة محشوّة في حقيبة الظّهر: ثمانية لترات تعني ثلاثة أيّام من الاكتفاء الذّاتيّ. سرتُ على ضوء الـ"جي بي إس"، وجهة 180° نحو كفر هوفد الذي يُعلن الدّخول إلى غوبي. تلزمني ثمانية أيّام كي أبلغه انطلاقًا من بورن. مشيتُ على هدى السّمت، أبحثُ عن الآبار عند هبوط المساء، أخيّم في العراء وحيدًا، أو أنام تحت خيام اللّبد إذا توافرت، وأحيانًا أصادف قرية. كلّ كيلومتر أقطعه هو مسيرة إضافيّة منحدرة إلى القحولة.
كانت منغوليا بالنّسبة إلى الفارّين مطهَرًا. السّير في السّباسب كان (ولا يزال) أسهل من السّير في التّيغة، وكان حظّ مصادفة بشر آخرين هناك أوفر ممّا هو عليه تحت غطاء الغابات. النّاجعة الذين نصادفهم كانوا أميل إلى استقبال الغريب من الوشاية به إلى السّلطات. ولكن لمّا كان النّفوذ الرّوسيّ يمتدّ وقتها إلى حدود الصّين، فإن المحكوم عليهم لم يكونوا في منجى بعد. وهو ما يفسّر ضرورة مواصلة الطّريق بالنّسبة إليهم، وعدم الاستسلام لإغراء التّوقّف في منتصفه. لا شكّ أنّهم لم ينسُوا قطّ أنّ هدفهم ليس الخروج من روسيا بل الوصول إلى الهند. هروب المرء لا ينحصر في مغادرة الجحيم: إذ يلزمه أيضًا بلوغ الجنّة...
أسير بجوادي من الفجر إلى الليل ما بين ثماني ساعات وعشر، أقطعها باستراحة بستّين دقيقة وسط النّهار وببعض المحطّات القصيرة المرتجلة. كلّ يوم، أطلب من حصانيّ إزالة خمسين أو ستّين كيلومترًا. ذات مساء، ثقب حافر سلاموفير سراديب هياقل. تخيّلت الحيوانات الصّغيرة منكفئة في رفاه جحرها، وإذا هي تتلقّى السّماء بغتة على رؤوسها. تأمّلت الثّوب المزدان ببقع الشّمس الرّاشحة عبر تشبيك السّحب المدوّرة وهو ينفرش على بساط الأعشاب. كانت السّحب تُشبه قطيعًا دفعته ريح قد تكون راعيتَه. الآبار التي تعطيني خرائطي الرّوسيّةُ مكانَها المضبوطَ تُحدّد مسيرتي. رحلتي هي خيط من الحياة أربطها بين نقطة ماء وأخرى. حين أروي دابّتيَّ، أستشعر سعادة مثلى. يتصاعد الرّضا بداخلي كلّما زاد بطناهما امتلاء. ستكون لي أخيرًا إجابة للذين يسألونني عمّا أنشُده من أسفاري: "سعادة أن أرى جواديّ يبولان".
في بعض أوقات النّهار، يُرهقني التّعب فأنام بعد ربط الحصانين، فأحلم عندئذ بأقاربي الذين تركتهم في فرنسا، وعندما أصحو، وقد عُدت بغتة إلى وحدتي، ملقى في الخلاء السّبسبي، تستبدّ بي كآبة عارمة. أتكلّم كثيرًا وحدي، بأكثر قوّة وأطول مدّة. وأقول في نفسي إنّي حين أعود إلى فرنسا، فسوف أجد صعوبة كبيرة في إلقاء محاضرات في المدارس، لأنّي سأكون اكتسبتُ عادة سيّئة هي الاستماع إلى نفسي عندما أتكلّم! ذات مساء، صادفت خطّ هاتف بأعمدة مرفوعة إلى السّماء اللّازورديّة تحزّ السّبسب وتسطِّر هروب الآفاق. مغوليّ رافقني في جزء من الطّريق، كان يحمل أورغا، يستعمله في القبض على الخيول، ويمسكه بالعرض أمام حصانه مثل ميزان بهلوان. دعاني إلى خيمته حيث قضَينا سهرة مُمتعة، في سكون تامّ لا يقطعه غير نحنحاتنا لإطفاء النّار التي أشعلها مِبشر الأيراك. في الأيّام الموالية، مررتُ بكُفور صغيرة، سانكت، وبايانغول، وتوغروغ. وكما هو الشّأن في بورنْ: بعض بيوت محاطة بسياجها، مثل مربّع جنود تتحدّى الأفضية المُحيطة مُترامية الأبعاد.
ذات يوم، قفزتُ من حصاني، وضغطتُ بقدمي على رأس أفعى رأيتُ عظيماتها السّوداء والبيضاء على الأرض. أمسكتُها كما ينبغي، بين الإبهام والسّبّابة عند منبت الرّأس. اكتشفتُ في ما بعد أنّها أفعى هابيس، عرّفها عالم زواحف غربيّ في القرن الثّامن عشر بكونها أكثر أفاعي آسيا الوسطى سمًّا. هل هي من نوع الزّواحف التي أكلها رافيتش ورفاقه في صحراء غوبي، وكانوا مدينين لها بنجاتهم؟ أغتنمها فرصة لأبيّن أنّ غاية رحلتي ليست إعادة تمثيل الملحمة الرّافيتشيّة في بيئة حُدوثها كي لا أفكّر حتّى في طبخ الزّاحفة.
كابوس عشته مع هامّة ذات مرّة في خيمة قضَيت فيها ليلتي على الأرض. أحسستُ شيئًا يُلامس وجهي فصفعتُ نفسي بين يقظة ومنام، وأفقت في الصّباح، أنا المسكين الذي يتهيّب العناكب، وأنفي على جثّة عنكبوت ضخم. هناك أيضًا الجمال التي تعترضني منها قطعان كاملة وأجدني عاجزًا عن معرفة ما إذا كانت برّيّة أو أليفة. حصاناي يهابان سفن الأحمال تلك، ويخافان الاقتراب منها.
أركب حصاني مثل التّركمان: أي بتغيير مركوبي في اليوم ذاته. الصّباح على سلافومير الأسود، والظّهيرة على الأبيض. بعمليّة التّناوب تلك، نُحافظ على صحّة الدّوابّ بينما يُحدث تغيُّر لون عنق الفرس تحت الأنظار متعة لا يستهان بها.
حولي، 360° من السّباسب المستقيمة. ولا شجرة للتّبوّل أو الانتحار شنقًا. أحسّ ضغط الشّسوع مثل أنشوطة حول الرّقبة.
بعد اجتياز وادي أورخون من معبر، منحت نفسي بضع لحظات من النّوم، مُستلقيًا على غطاء كتيم عسكريّ روسيّ. سحبني طنينٌ من أحلامي. جرّار يتقدّم بصعوبة في السّبسب، وهو يجرّ خيمة لبد مُفكّكة في عربة. لا شكّ أنّ سائق الجرّار انتبه لوجود حصانيّ، فقد أقبل نحوي. أغمضتُ عينيّ. الشّمس تحرق الأرض. شهقة: توقّف الجرّار وغطّاني بظلّه. كنت أهمّ بالاحتجاج أنّه لا يعقل أن تسرق شمس النّاس هكذا حين غادر الكبينة رجل، وركض نحوي صارخًا وبيده مُخْل، في نيّة صارخة بكسر جمجمتي. فززت قائمًا على أُهبة تفادي ضربته، فعثر، ما سمح لي بقلع وتد الحصانين، وركوب سلافومير، وإذا برجل آخر يبرز من الجرّار. تصارع الرّجلان قليلًا، صراع سكارى. انسحبت على حدة، وأنا لا أزال مخضوضًا قليلًا، وتابعتُ المشهد على حصاني (حيث يعرف كلُّ مغوليّ أنّ الرّاكب في مأمن)، وثنيتُ الأعنّة.
- اعذره، فهو سكران! قال المغوليّ الثّاني في تكشيرة فظيعة. ولكن كلّ شيء على ما يرام، كما تعلم.
- نعم، نعم، أكيد أنّ كلّ شيء طبيعيّ، كلّ شيء على ما يرام، قلت.
- حسنًا، سنعود إلى أمورنا، لقد سررنا برؤيتك.
- تشرّفتُ أنا أيضًا. حقًّا. متعة.
- مع السّلامة.
- مع السّلامة.
وانصرفا غربًا.
* مقتطف من كتاب "محور الذئب: من سيبيريا إلى الهند، على خُطى الفارّين من الغولاغ"؛ العمل الحائز "جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة" 2023 في فرع الرحلة المترجَمة. تقديم وترجمة: أبو بكر العيادي.