"محور الذئب" (12): أسبوعان في أولان باتور

"محور الذئب" (12): أسبوعان في أولان باتور

02 سبتمبر 2023
من أمام معبد "غاندان"، أحد الأديرة المتبقّية في العاصمة المنغولية أولان باتور (Getty)
+ الخط -

الأولويّة: الوفاء بعهد عقدتُه في أولان أودي قبل خمسة عشر يومًا. لقد أقسمتُ أن أحيّي تسيريندولام حالَ وصولي إلى أولان باتور. علمت بتاريخها في أرشيف المكتبة. هي امرأة تفوق السّبعين من عمرها. في الثّلاثينيات، كانت ابنة جندن، الوزير الأوّل المنغولي الذي راح ضحيّة التّصفيات الستالينيّة. عام 1937، أُوقِف ونُفي إلى موسكو، ولم تتجاوز تسيريندولام الخامسة. أُعدم الوزير في أقبية لوبيانكا دون أن يعرف السّبب، ثمّ سُمح لزوجته والطّفلة تسيريندولام بالعودة إلى أولان باتور.

ركبتا القطار في البداية حتّى أولان أودي، ثمّ لم يكن أمامهما غير السّير على الأقدام، فاضطرّتا إلى قطع خمسمائة كيلومتر مشيًا على طول سيلينغا، عبر كياختا: خمسمائة كيلومتر في الشّتاء بِرِجْلي طفلة في الخامسة... اليوم، تدير تسيريندولام "متحف القمع" في أولان باتور. هي التي أُريد أن أخصّص لها لحظاتي الأُولى. وأقول لها إنّي مشيتُ على خُطاها بعد مرور سبعين عامًا. أقول لها إنّي على ضفاف سيلينغا ثمّ على صهوة جواد في السّبسب، منحتها في خاطري بعضًا من ساعات جهودي. أقول لها أخيرًا: قد خُيّل إليّ أنّي أقوم برحلة سرّيّة كانت هي غايتها. 

دلّوني على بناية ضخمة. يافطة: "متحف القمع السّياسيّ وضحايا الحرب". صعدت مدرج المدخل. بعد لحظات سأكون أمام تسيريندولام، "المرأة التي عبرت سيبيريا، حين كانت طفلة". طرقتُ الباب بقوّة خفقان قلبي نفسها. فتح لي الباب رجل. 

- أهلًا، أنا فرنسيّ، أُريد مقابلة المديرة تسيريندولام، ليس لي موعد، ولكنّ لي شيئًا هامًّا أودّ أن أقوله لها.

- ولكن، سيّدي، ألا تعلم؟ كانت مريضة، وقد توفّيت هذه اللّيلة.

أبحاثي وبعض المسائل التنظيميّة فرضت عليّ البقاء في أولان باتور أسبوعين. كنتُ أتربّص بأيّ شخص ينقل إليّ حكاية فرار أو يدلّني على سبيل للبحث. سعادتي الأُولى كانت في التقائي يوري نيكولايفيتش كروشكين، بفضل وساطة المُلحقة الثّقافيّة بالسّفارة الرّوسيّة، امرأة عملاقة ترتدي فستانًا بُنّيًّا. كروشكين واحد من آلاف رُوس أولان باتور. أشقر، ومتين، ومحدّث ومستفيض، ومؤرّخ، وكاتب، وأكول، وألسنيّ، وفوق ذلك رئيس مؤسّسة علميّة محترمة: "عُصبة المُنغوليّين الرّوس". كنّا نلتقي كلّ يوم تقريبًا في حانة يديرها صينيّون ينظر إليهم المغول بعين الرّيبة، حتّى إنّه يمكن أن نلمس أدقّ فوارق النّفس خلف لغز الفجوة البصريّة المنغوليّة الألتائيّة. مرحلة كنت أشرب خلالها بوفرة، كطريقة لإعادة ربط علاقتي بالحضارة بعد شهور من الوحدة. ابتلعتُ لترات من البيرة المنغوليّة وأنا أسمع كوروشكين يستحضر العهد القديم.

- عمليّات هروب كثيرة حدثت بعد الحرب العالميّة الثّانية"، قال لي. "اثنا عشر ألف سجين من جيش الجنرال فلاسّوف تمّ نفيهم هنا، في منغوليا، إضافة إلى خونة أوكرانيّين التحقوا بالفافنْ وروس خاربين. ولكن حدث أن فرّ بعض المساجين خلال نقلهم".

- على أمل الذّهاب إلى أين؟

- لا أدري. حظوظ العودة إلى روسيا تكاد تكون معدومة. كثير منهم يحاولون أن يطويهم النّسيان، في منغوليا نفسها. أعرف أنّ في جبال ألتاي خلاسيّين تحت خيمات اللّبد. مغول بعيون زرق. ولو فتّشنا جيّدًا تحت زرابيّ اللّبد أو في صناديق الخشب، أنا واثق من إمكانية العثور على حلقة حزام عسكريّ...

ركبنا تاكسي وسرنا نحو الضّواحي الشّماليّة للعاصمة. تجازونا بعض عمارات المساكن الاجتماعيّة "أحياء التقدّم" كذلك كانت تُسمّى في عهد الاتّحاد السّوفييتيّ، حين كان حلم كلّ مواطن أن ينتقل إلى شقّة ذات تدفئة. في بقيّة المدينة، يعيش أغلب المغول تحت خيمة لبد محاطة بأسيجة. وسادة بيضاء ضخمة في مربّع من الحطب: رمزيّة احتضار الارتحال. إنّه قفا المزحة الكبرى لألّي الذي اقترح تحويل المدينة إلى الرّيف. هنا، وُضع السّبسب في قفص. قادني كروشكين إلى المقبرة، آخر مكان في أولان باتور لاذت به الرّوح الرّوسيّة.

الصورة
الفرقة القوزاقية - القسم الثقافي
فرقة للخيّالة القوزاق على الحدود الروسية المنغولية في أثناء الحرب العالمية الأولى عام 1915

استقبلتنا حارسة المكان. هي تعيش مع أطفالها الثّمانية في نقّالة مفكّكة في آخر المقبرة. كلّ عام تتوسّع القبور على حساب مساحة مربّع العشب أمام النّقّالة. من سلالة مستوطن تابع للقيصر وأرملة بطل من أبطال الحرب الكبرى لعام 1941. أي إنّها تنتمي إلى الطّبقة المغمورة لخدم روسيا الخالدين. ولكنّها فوّتت على نفسها قطار ما بعد السّوفييتيّة. هي تذبل هنا على هذه التّلعة المفتوحة للرّياح، محاطة بالموتى، منسيّة من الجميع، دون مساعدة، دون رجاء.

عبرتُ المقبرة مع كروشكين.

- انظر، هنا، في هذا المكان، دُفن المنفيّون السّياسيّون الذين مدُّوا عام 1950 الطّريق من كياختا إلى أولان باتور. كان المشغَل رقم 505. سولجينتسين ذكره في كتبه. أولئك الزّيك لم يُعد لهم الاعتبار قطّ. لا توجد حتّى شواهد على قبورهم. 
ذهبنا للجلوس قرب قبر والدته على أحد المقاعد الصّغيرة التي جُعلت حسب التّقاليد الرّوسيّة كي يستطيع الزّوّار تناول طعامهم في الهواء الطّلق قرب موتاهم.

- أغرب حكاية هروب تخصّ أحد جنود فلاسّوف. لقد فرّ بصحبة ضابط أبيض من خاربين وروسيّ آخر ومعه بندقيّة مسروقة. طاردتهم المفوّضيّة الشّعبيّة للشّؤون الدّاخليّة. وكان الجنديّ الفارّ من خيرة الرّماة. وكان كلّما سنحت له فرصة، أطلق النّار على النّجم الأحمر لقبّعات ملاحقيه ليُريَهم أنّه الأقوى، وأنّه لا يريد قتلهم. تأثّروا بتلك الحركة، وعدلوا عن ملاحقته. ضابط خاربين قتلته المليشيا، ورفيقه قتله دبّ. ولكنّ الجنديّ عاش في الغابة، شرقيّ منغوليا حتّى قدوم غورباتشيف. لم يغادر الغابة إلا عام 1986. أي بعد أربعين عامًا من النّجاة!

- ورافيتش؟ شهادته طُعن فيها بقوةّ في فرنسا.

- وماذا يعرف أولئك الذين اعترضوا عليه؟ ربّما كذب، ولكن هذا لا يعني أنّ مثل ذلك الفرار مستحيل. سترى بنفسك حين تعبر غوبي: حيث يعيش مربّو ماشية... وجمّالون... ورُحَّل. بكثير من الحظّ، ومساعدة دليل يعرف أماكن الآبار، يُمكن المرور. رهبان فرّوا إلى التّبت عند بدء التّصفيات الكُبرى عام 1937. وقبلهم، عائلات بتمامها نزلت إلى الجنوب، هربًا من التّأميم الإجباريّ لعام 1924...

ثمّة أيضًا المؤمنون القدامى الرّوس الذين عثر عليهم في بعض القرى الصّينيّة: هُم قطعًا عبروا صحراء غوبي للوصول إلى هناك.

لم يضف كروشكين إلى ذلك شيئًا. كانت الرّيح تُؤرجح بلُطف الصّلبان الأرثوذوكس. تمنّيت لو أنّ لي قارورة من أيّ شيء كي أنفحه كأسًا نقرعها على نخب الموتى. ولكنّي نسيت أن أشتري منها واحدة.

أستأنف: سمعت أيضًا حكاية ألمانيّين من الفولغا يعملان بالغولاغ المغوليّ مولْدوت في الأربعينيات. سرقا شاحنة وفرّا رأسًا إلى الصّين عبر غوبي... رافيتشُكَ ليس الوحيد!

في الفندق حيث عدتُ مساء، اقترحت عليّ الشّابّة أمارا (تمام بالمغوليّة) أن أكتري شقّة خالتها بدل مواصلة الإقامة في هذه البناية المنحوسة المعَدّة للأبّاراتشيك عند عودتهم. ينبغي أن أُقابل الخالة من الغد في عمارة بوسط المدينة. في الأثناء، نشرت صحيفة وطنيّة يوميّة صورتي وملخّصًا لمغامراتي باللّغة المنغوليّة على خمسة أعمدة. والصّحيفة في يدي، ضغطت في الموعد المُحدَّد جرس باب الخالة التي استقبلتني بارتياب. نفرت قليلًا من ترك شقّتها لغريب. صحيح أنّ أمارا حدّثتها عنّي، ولكنّها توصية واهية.

- أليس لك أوراق رسميّة أو رسائل من الحكومة؟ سألتني في نبرة تشيكيّة تعوّدت إيلاء الثّقة في الأختام أكثر من إيلائها إلى وجوه النّاس.

- لي ما هو أفضل منها سيدّتي.

ومددتُ لها الصّحيفة في هيئة مَن له إهاب محترم. النّيّة طيّبة، ولكنّ الصّحافيّة أرادت التّحذلق، إذ جعلت تحت صورتي، دون أن أدري، العنوان التّالي: "هذا الرّجل كان ينبغي أن يكون رهنَ الإيقاف".

ندّت عن الخالة حركةُ ذعر. استطعت إقناعها بقراءة المقالة حتّى النّهاية، ففتح لي ذلك أبواب الشّقّة.

التحق بي ابن خالي نيكولا ميّي، مخرج الأفلام الوثائقيّة، إلى أولان باتور. سيصوّرني خلال عشرة أيّام في المدينة وفي السّباسب. استقبلته في المطار برفقة أمارا، الأميرة الشّابّة أوّل مواطن مغوليّ يلتقيه نيكولا، ما أوحى له بأنّ هذا البلد جنّة. في الأيّام الموالية، زرنا "مركز الدّراسات والأرشيف عن القمع وردّ الاعتبار"؛ ريشين، مديره، شيخ مغوليّ وقور وأصيل، بدأ اللّقاء بعرض التّرجمة الرّوسيّة للكتاب الأسود للشّيوعيّة:

- لا يوجد فصل محدّد خاصّ بمنغوليا في هذا الكتاب. لقد نُسينا! والحال أنّ مئات ألوف من النّاس عانوا الاضطهاد الشّيوعيّ.

- تمّ نفيهم إلى الغولاغ؟

- لا. في منغوليا، لم يكن هناك تقليد غولاغ بالغ الأهمّيّة لأنّ ثمانين في المائة من الموقوفين تمّت تصفيتهم، وهو ما يحلّ بكيفيّة فعّالة جدًّا صعوبات التّنظيم المتعلّقة بحبسهم.

- وعمليات الهروب؟

- حدثت، عبر غوبي، ولكن عبر مسلك... ما اسمه؟

- رافيتش.

- رافيتش، هو ذا. لم أسمع من قال إنّ أناسًا نجحوا في المرور من حيث زعم أنّه مرّ، أي في المنطقة الوسطى لغوبي.
صحيح أنّ أناسًا كانوا يهربون من طريق الصّحراء، ولكنّهم يتوجّهون إلى سينكيانغ، أي أكثر غربًا بكثير من خطّ سيرك. الأرض أقل قحولة إذ ثمّة ناجعة يعيشون طول العام حول آبار. أمّا حيث تريد أن تمرّ، فلا أحد يغامر بنفسه. ليس هناك سوى الموت.

الصورة
تمثال جنكيز خان - القسم الثقافي
تمثال لجنكيز خان في مدينة منغولية تسيطر عليها الصين إلى اليوم، شباط/ فبراير 2006 (Getty)

الرّهبان الذين استجوبناهم في دير داسشيْلون بوسط أولان باتور، لطّفوا قليلًا تشاؤم ريشين. تحت الطّنافس البوذيّة لقاعة العبادة، غمغم لاما سحقته الشّيخوخة بنتف من الذّكريات. الحياة أنهت أيّامها في عينيه، والبقيّة هيكل عظميّ من جلد شبيه بالرّقّ. كان يرتدي روب المريدين الجيلوبكا الأحمر والأصفر. في عُمق الحجرة جتسول يردّد بعض مانترات، وكبير الدّير يترجم لنا تمتمات الشّيخ الجليل.

- لم يقع نفيه من قبل الحمر حين انهال القمع الدّيني في حدود 1937. ولكن كثير من أصدقائه ماتوا. تصوّر أنّ سبعة عشر ألف راهب من بين واحد وعشرين ألفًا قُتلوا رميًا بالرّصاص... آلاف الأديرة التي كانت تعدّها منغوليا دُمّرت، باستثناء ستّة في أولان باتور نجت من الدّمار بأعجوبة. ولكن الأهمّ أنّ العقيدة البوذيّة لم تزُل خلال سنوات العذاب تلك".

- البوذيّون صمدوا؟

- ليس بالضّبط، لم يكن هناك نضال مسلّح، بل نوع من المقاومة السلبيّة، المحرّفة. رهبان واصلوا عبادة بوذا في خيام تحوّلت إلى أديرة متنقّلة. كانت تُقام في أماكن خفيّة، حيث يُؤدّي الرّهبان شعائرهم، فإذا جاء تحذير رُفعت الخيمة في أقلّ من ساعة، وحُملت على ظهور الخيول أو الجمال، ثمّ ينقلونها إلى مسافة مائة كيلومتر ليستأنفوا طقوسهم. وُجدت أديرة سرّيّة من هذا النّوع في كامل الحزام القاحل لصحراء غوبي.

- ولم تحدث عمليّات هروب؟

- بلى! هناك رهبان ذهبوا إلى التّبت. بعضهم استأنفوا حياتهم هناك، في أديرة تستقبلهم، فيما وراء غوبي. وبعضهم عادوا في السّتّينيات. وآخرون استقرّوا. بل ثمّة حكاية راهب بوذيّ من بورياتيا هرب من سيبيريا الستالينيّة عام 1934، وعاد ليقيم في منغوليا، ثمّ اضطرّ إلى الفرار منها عام 1937، حين صار الوضع خطيرًا هنا. عندئذ لجأ إلى التّبت، والتحق بدير لاماوات في الجبال حيث طرده منها عام 1950 ماويّون صينيّون. هرب عبر الهيمالايا وعاش بقيّة حياته في الهند بعد أن قضى عشرين عامًا يلهث خلف الحرّيّة...

خلال إقامتي في أولان باتور، كنت أزور سلافومير كلّ صباح. مربّو الماشية الذين عهدت به إليهم يعتنون به كما ينبغي. ذررتُ مسحوق الطّلْق على جرح صغير في كفله. بعد أيّام قليلة، سوف أستأنف رحلتي في السّباسب.

ذات مساء، في الشّقّة، أفرغنا بحذر برفقة أمارا قوارير سانت إيميليون حملها نيكولا في حقائبه. هناك أيضًا نقانق بالفلفل الأسود مزّقتها الفتاة المغوليّة، اللّاحمة مثل أبناء عِرقها، بأسنانها البيضاء وهي تشخص فينا بعينيها. شربنا على مستقبلها. أمارا لن تنهي أيّامها في السّباسب. تعرف أنّ لها مستقبلًا. حكت لنا أنّ دبلومها في التّكنولوجيا الحيويّة قادها إلى مخبر بحث حيث ابتكرت وطوّرت طريقة لصُنع الورق من نثار الصّلصال الصّينيّ. تقنية ثوريّة قد تسمح للمغول بإنتاج ورقهم الخاصّ والتخلّي عن الواردات الصّينيّة. غير أنّ الإعانات الماليّة التي كانت الحكومة تمدّها بها لأشغالها انقطعت فجأة تحت ضغط رسميّ من الصّين. ومنذ ذلك الوقت، وهي تُحاول مواصلة أشغالها في جامعة أوروبّيّة. وبما أنّ فرنسا لم تعد تستقبل الأدمغة، فإنّ ألمانيا هي التي ستعتني بأمارا. إذا جرت الأمور كما ينبغي، فسوف تلتحق في السّنة المُقبلة بـ"جامعة التّكنولوجيا الحيويّة" في مدينة إيكس لاشابيل. الصّغيرة لم تستسغ سانت إيميلون. همست في أذني:

- ابن خالتك يشبه البارون.

- أيّ بارون؟

- أونغرن.

كنت أعرف أنّ ابن خالي له وجه بلطيقيّ. في روسيا، في أوزباكستان، ليس من النّادر أن يحسبه النّاس ليتوانيًّا. الكولونيل كانيا، المُلحق العسكريّ الفرنسيّ الأسبق في آسيا الوسطى أكّد هو أيضًا ذات يوم، ونحن نتنزّه في زورق على بحيرة إيسّيك كول، أنّه يشبه كلّ الشّبه جنرالًا ستالينيًّا دافع عن موسكو خلال الحرب العالميّة الثّانية. ولكنّ ملاحظة أمارا أكثر ملاطفة. أن يشبه رومان فيدوروفيتش فون أونغرن ستنبيرغ، البارون المجنون! الجنرال الأكبر للفرقة الآسيويّة! ابن خالي!

- هل تعرفين البارون يا أمارا؟

- كلّ المغول يعرفونه. يتحدّثون عنه حتّى في المدرسة. فون أونغرن ستنبيرغ هو صديقُ شعبي.

الصورة
أونغرن - القسم الثقافي
البارون أونغرن ستنبيرغ الذي أعدمه السوفييت، بعد تحريره منغوليا من الحكم الصيني عام 1921 (Getty)

في أبخرة الفودكا والسّانت إيميليون انبعثت في ذاكرتي ملحمة البارون. ثورة أكتوبر... العام 1921... الحُمر وهم يتقدّمون نحو المنطقة العابرة لبيقال... البيض وهم يخسرون المواقع، وقد أضعفهم شقاقهم العميق... انهزام فرانغل ودينيكين... الهَتْمان  سيمينوف، قائد الثّورة السّيبيريّة المضادّة وهو يلعب لعبة مريبة... الصّينيّون وهم يحتلّون منغوليا، ليشبعوا بذلك ثأرهم الذي يعود إلى قرون من الصّفعات... وفجأة، تبرز في السّباسب صورة البارون على صهوة جواده، وعيناه في زرقة بحر البلطيق تلتفتان إلى السّباسب، وهو مقتنع بأنّ الخلاص يأتي منها. 

شكّل جيشًا من الفرسان المغول والرّوس والتبتيّين والأوكرانيّين والقوزاق واليابانيّين: جحفل أسطوريّ سوف يحمل اسم "الفرقة الآسيويّة للفروسيّة"، التي سوف يعلن نفسه جنرالًا أعلى على رأسها. كم من رجل؟ وهل يعرف ذلك هو نفسه؟ قيل إنّ اليابان هي التي تُحرّكه، وإنّه مدفوع بحُلم جنونيّ، وهو أن يُعيد إلى الحياة، من السّباسب إلى المحيط الأطلسيّ، السّاعات المجيدة للإمبراطوريّة الصّفراء، أن ينتزع أوروبّا من انحطاطها ويغمرها بضوء الشّمس المغوليّة. بدأ يرى نفسه أونغرن خان، إمبراطور أوراسيا. طرد الصّينيّين من أولان باتور (وكانت تسمّى وقتها أورغا)، أعاد إلى العرش بوذا الحيّ، وإذ قوّى هذا النّصر جانبه، قاد فرقته إلى الشّمال وهو على يقين بأنّه سيهزم دون صعوبة جُند الجيش الأحمر، ويُواصل غزواته دفعة واحدة حتّى الغرب. غير أنّ حماسه سرعان ما أوقف: فقد مُني بهزيمة منكرة على الحدود المنغوليّة، وخانه رجاله، وألقى عليه السّوفييت القبض وأُعدم عقب محاكمة عاجلة. ترك لدى بعضهم ذكرى معتوه خطير مُنذر بالفاشيّة، ولدى آخرين صورة فارس أوراسيّ فاغنري لا يُميّز بين السّباسب وغابة بروسيلياند. أمّا المغول، فإنّهم يخلّدون ذكراه لأنّهم يدينون له بتحرير أورغا من الصّينيّين، وبحبّه منغوليا أكثر من أيّ شيء آخر.

ملأتُ كأس أمارا. لا شكّ في أنّ البارون كان سيسعد حين يعلم أنّ فتاة مغوليّة (وهي الأجمل!) تستعدّ للاستقرار في إيكس لاشابيل في قلب الإمبراطوريّة المقدّسة...

- هل تريدون التّثبّت من وجود ذكريات عنه في المتحف القوميّ للتّاريخ؟ اقترحت علينا. 

- وهل في ذلك شكّ؟ فورًا!

أبدى مدير متحف التّاريخ بعض الاستغراب من تلهّفنا.

- من البارون؟

بقيت جزمة. اليسرى في ما أظنّ.

قادنا إلى الذّخيرة المذكورة. اليسرى فعلًا. وكما هو الشأن مع الأصفياء والملائكة والسّاموراي، لم يترك البارون شيئًا تقريبًا من مروره على الأرض. أثر. ذكريات. وهذه الجزمة الجلديّة التي أنحني أمامها تحت الأنظار الذّاهلة لمحافظ المتحف. 

- هل أستطيع أن أقدّم لهما خدمة أُخرى؟ سأل أمارا، محتارًا نوعًا ما.

- "هما يبحثان عن معلومات حول النّفي وعمليّات الهروب"، أجابته أمارا.

- لديّ بعض الشّيء.

الصّورة التي تفحّصناها بدقّة، ونحن جالسان حول مكتبه، تعود إلى 1928، وتمثّل صورة تلاميذ في الفصل النّهائيّ، كلّهم، وقد أخذت أمام مبنى مدرسيّ.

- هذا "معهد ميشلي" في باريس عام 1928. لو تتأمّلان الصّورة جيّدًا فسوف تُلاحظان شيئًا غريبًا.

وأشار بسّبابته إلى رؤوس. نُلاحظ أربعة شبّان مغول يبدو عليهم التّيه في بلاد الخيّالة السّود للجمهوريّة.

- كانوا مبعوثين إلى باريس لإتمام دراستهم. لديّ نسخة من خطاب النّاظر: "... فرنسا تفخر باستقبالهم، سوف يكونون الأربعة الأوائل المتعلّمين في منغوليا..."، عادوا هنا، إلى أولان باتور، في الثّلاثينيات، بعد أن أنهوا دراستهم. أحدهم صار أكبر اختصاصيّ في علم الوراثة، والثّاني عالم جيولوجيا، والثّالث طبيبًا، والرّابع قيّمًا على المسرح. طالب خامس قضى هو أيضًا وقتًا في بلادكما، عاد في الفترة نفسها وتميّز بأعماله الأركيولوجيّة. ولكن عندما بدأ القمع، اتُّهموا بالتّخابر الإمبرياليّ بسبب إقامتهم في فرنسا. لقد عاشوا ودرسوا في خندق العدوّ! نُفي ثلاثة منهم إلى الغولاغ. واحد فقط عاد حيًّا. سأكون سعيدًا لو حاولتما البحث في "معهد ميشلي" عن أرشيف يخصّهم، حين تعودان إلى فرنسا.

وعدناه بذلك.

مررنا مشيًا إلى الضّفّة اليمنى لتول، الوادي الذي يجري جنوبي أولان باتور. من قمّة تلّة حيث أقام الشّيوعيّون نصبًا تذكاريًّا لجنود الحرب العالميّة الثّانية 1941 - 1945، أشرفنا على المدينة التي لم تكن حتّى الثّلاثينيات سوى قرية من الخيام اللّبديّة والعزبات المغروزة بباغودات. قمّة قريبة جدًّا تخرّ في شكل منحدر سهل حتّى الوادي.

- من هنا دخل البارون إلى أورغا، قالت أمارا.

صعدت عيناي مع تيّار تول. على مسافة بضعة كيلومترات، يرسم عقفة نحو الجنوب ويتوارى خلف خطّ تلعة متينة. من هنا سوف أمرّ غدًا في اتّجاه سباسب الجنوب وصحراء غوبي.


* مقتطف من كتاب "محور الذئب: من سيبيريا إلى الهند، على خُطى الفارّين من الغولاغ"؛ العمل الحائز "جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة" 2023 في فرع الرحلة المترجَمة. تقديم وترجمة: أبو بكر العيادي

المساهمون