"محور الذئب" (01): في قطار روسيّ منطلق نحو الشرق

17 يونيو 2023
سيلفان تيسّون مع مجموعة متسلّقين وهُم يستعدّون لتسلّق جبال الألب الفرنسية، 2014 (Getty)
+ الخط -

بعد أن طاف الكاتب والرحّالة الفرنسي سيلفان تيسّون (1972) حول العالم على درّاجة برفقة كاتب رحّالة آخر هو ألكسندر بوسّان (جُبنا الأرض على درّاجة، 1996)، وقطع خمسة آلاف كيلومتر مشيًا عبر الهيمالايا مع نفس الصّديق (المشي في السّماء، 1998)، وطوى ثلاثة آلاف كيلومتر في آسيا الوسطى على صهوة جواد (نزهة فروسيّة في السّباسب، 2001)، قرّر أن يقتفي آثار مجموعة من المنفيّين السّياسيّين في العهد السّوفييتي، في مقدّمتهم الضّابط البولنديّ سلافومير رافيتش (1915 - 2004) الذي دوّن فرارهم من الغولاغ السّيبيري ووصول النّاجين منهم إلى الهند في كتاب بعنوان "المسير الطّويل"، شكّ الكثير في صدقيّة ما ورد فيه.

ولم تكن نيّة سيلفان تيسّون في كتاب "محور الذّئب"، الذي نعرض هنا ترجمته للقارئ العربيّ، التّثبّت من مرويّة رافيتش، وإنما كان غرضه أن يعيش تجربتهم ومعاناتهم التي امتدّت على مسافة ستّة آلاف كيلومتر، ويحيّي توقهم إلى الحرّيّة. طوال ثمانية أشهر، عبَر تيسّون ثلوج سيبيريا وتنغتها وسباسب منغوليا وصحراء غوبي وجبال التّبت وقمم الهيمالايا، قبل أن يصل إلى كالكوتا، في رحلة بوسائل عادلة by fair means كما يقول الإنكليز، أي على حصان أو درّاجة أو زورق، أو سيرًا على القدمين في الغالب. ولا يكتفي بوصف ما يصادفه، بل يمزج الجغرافيا بالتّاريخ، القريب والبعيد، ويشفع ذلك بتأمّلات خاصّة عن الإنسان والطّبيعة والحرّيّة والأيديولوجيا والمعتقدات والعادات، فضلا عن الشّعر الذي يستدعيه كرفيق سفر.

في يوميات تجمع بين التّأمّل والنّظر الفلسفيّ، وبين الرّواية والقصّة وأدب الرّحلة، يطرح سيلفان تيسّون عالَمه الخاصّ، وعلاقته بالزّمن، ومفهومه للارتحال، ورؤيته للتّسكّع أو التّشرّد والهرب بحثاً عن الحرية.



حزينٌ هو القطار القاصد إلى برلين، خصوصًا إذا كنّا بداخله. غادرتُ شقّتي الباريسيّة منذ حين. وصلت إلى محطّة الشّمال في المترو. جميلة فكرة ركوب المترو للذّهاب إلى سيبيريا. بائع التّذاكر الذي طلبت منه "تذكرة ذهاب" فقط في الدّرجة الأولى إلى "غار دي نور" (محطّة الشّمال) أجابني أنّنا لسنا في الزّمن الذي مضى عليه قرن وتخيّلت أنّي كنت أفضّل ذلك. 
بعض الأصدقاء كانوا هنا، على الرّصيف. صحت فيهم بصوت جنديّ من الأربعينيات كان يحسب أنّه عائد بعد ثلاثة أسابيع:

- أنا ذاهب إلى برلين.

لم يستحسن المزحة أحد.

تحرّك قطار ألمانيا، استلقيت على مرقدي. سحبت بلا تبصّر من كيس الكتب الكبير الذي جهدت في ملئه حتّى الفم: عن قِصر الحياة، لسينيكا. ولمّا كنت متطيّرًا من عناوين الكتب، لم أفتحه. نمت، وفي الصّباح، كانت برلين.

كلّ من يملك بضع ساعات في برلين ينبغي أن يزور متحف الجدار. قضيت فيه الظّهيرة قبل أن ألحق بقطار موسكو. ثمّة قاعة خاصّة بعمليّات الهروب: للمرور إلى الغرب، كان بعضهم قد اختبأ تحت محرّكات سيّارات، في حقائب أو لفائف كبْلات، في أسبتة أو في أزياء سوفييتيّة؛ ربّ أسرة زحلق ابنه على طول كبْل ممدود من النّاحية الأخرى لخطّ الفصل؛ أسرة قضت سنوات في صنع مِنطاد في مطبخها؛ سبّاح قطع بحر البلطيق باستعمال داسرٍ غوّاص من صنعه؛ أمّ ألقت برضيعها من فوق الجدار (حيث أعدّ شركاء لهم حشيّة)؛ كثيرون قفزوا من عمارات ذات طوابق عديدة تُطلّ مباشرة على الحدّ؛ آخرون حفروا أنفاقًا مدعّمة بطول مائة وخمسين مترًا باستخدام رافعات سيّارات. كأنّنا إزاء مسابقة ليبين للحرّيّة. حتّى إنّ يافطة مدخل قاعات المعرض كتب عليها: "الهروب مصدر المهارة". عمليّات الهروب تلك، التي كانت تُرمَّق في ملاحق المطابخ بالشّقق المشتركة في برلين الشرقيّة، غالبًا ما تُكلّل بالنّجاح. عندئذ يعلن بعض الهاربين السّعداء عن انتصارهم على هوس مفوّضي شرطة الشّرق بمعاملة الشّعوب كعصافير كناري، يصنعون لها أقفاصًا.

إذا جرت الأمور كما أشتهي، سأتقدّم مشيًا على حافة الضّفّة الشّرقيّة لبيقال

القطار يمضي الآن نحو بولندا، ثمّ يعبر بيلاروسيا وروسيا الغربيّة. نفس السّهل ونفس اللّيل من جانبي الحدود. النّسر المثبت على شارات رجال الجمارك هو وحده الذي يتغيّر. هو برأس واحد عند الألمان، ورأس واحد عند البولنديّين، ولكن برأسين عند الرّوس. كم من الدّماء سالت منذ عدّة قرون على الأراضي البائرة في مازوريا وسيليزيا لفضّ تلك المسألة حول معرفة أيّ أولئك الطّيور الكواسر كان ينبغي أن يتحكّم في بولندا...

أبقى في موسكو إلى أن أقوم بأمرين. أوّلًا، التفكّر أمام تمثال فلاديمير فيسّوتسكي، الشّاعر الذي غنّى للحرّيّة وفي حلقه بُرادة حديد. ثانيًا، تناول كيلوغرامين من الكافيار المصحوب ببيرة بالتيكا رقم 3 عند جاك فون بوليي، صديقي، وكان في عهده قد عبر أوراسيا على متن لادا نيفا، التي لا تقدر في العادة أن تتجاوز إقليم فرانش كونتي.

مرّة أُخرى، القطار القاصد إلى نريونغري، سيبيريا. الرّحلة تدوم أسبوعًا عبر نوفوسّيبيرسك. أبقى مستلقيًا في مقصورتي أغلب أوقات النّهار. من النّافذة، أنظر إلى توالي السّنادر: هي علامة إنذار عن بدء الأراضي السّلافيّة. كلّ سندرة تخفي خلفها سندرة أُخرى، يتواصل ذلك حتّى المحيط الهادئ.

خطّ الحديد العابر لسيبيريا عبارة عن سكّتين متوازيتين وُضعتا أمام الفرد على مسافة آلاف الكيلومترات بقرار من القيصر في فترة لم يكن ثمّة ما يبرّر الانحراف لتجنّب عزبة أو قرية وُجدت في مسار الخطّ المرسوم. كان إذن يسير في خطّ مستقيم. يمرّ السّهل وتبقى كلُّ دقيقة وفيّة لسابقتها. يوم أسلمت دبّابته الرّوح إثر وقوعها في حفرة موحلة، أخرج فون باولوس رأسه من فتحة المصفّحة، خلع خوذته، وتنهّد قائلًا: "في روسيا، لا توجد طرق، لا توجد سوى اتّجاهات".

الصورة
محور الذئب
غلاف الترجمة العربية للكتاب

ذات مساء، ما عاد اللّيل يهبط لأنّنا في نهاية مايو، ولأنّنا ندنو من خطوط العرض القريبة من القطب. نور لبنيّ ضعيف يلحم الغروب بالفجر.

في إحدى المحطّات، صعد روسيّان، نينا وسرغاي، إلى مقصورتي. كانا عائدين من إحدى مصحّات كازاخستان بعد نقاهة دامت ثلاثة أسابيع. تسلّقا القطار وهما يجرّان كيسًا عسكريّا مملوءًا بالأغذية. يأكلان دون استراحة. يبتلعان النّقانق. يهجمان على صُهارة الخنزير. يزدردان كلّ ما يستطيعان ازدراده. يشربان بيرة فاترة في قوارير ذات لافتات عليها هذا الوعد: "الكحول ليس أقلّ من ستّ درجات". دعواني إلى مساعدتهما: الكيس كبير وهما يريدان فيما يبدو أن يفرغاه قبل نهاية الرّحلة – أي بعد ثلاثة أيّام. يبتهجان بإتخامي. لم أعد أجرؤ على النّزول من مرقدي مخافة أن أجد نفسي محصورًا بينهما، مجبَرًا على الأكل بنهم. أحيانًا ألوذ بالعربة/ المطعم حيث تصرّ لودميا الشّقراء، السّمينة السّكرانة مثل برميل كبير، على سقيي كؤوس فودكا بالحليب حالما أنتهي من البورتش. وعندما أدفع باب المقصورة، وأنا متخم ثمل قليلًا، يكون سرغاي ونينا هناك، جالسَين أمام جفنة حساء باخِر، لم يلمس:

- نحن في انتظارك كي نبدأ!

أحد عشر يومًا مرّت منذ باريس. سندرار يزعم أنّ "القطار يحدث صوت برومْ - رومْ – رومْ"، أنا أميل إلى إيقاع ذي أربعة أوقات مثل الإيقاع الشّهير في روميو وجولييت لبروكوفييف: تَنْ-تَرَنْ-تانْتَنْ- تَرَنْ-تانْتَنْ. في داخله، تتحلّل السّاعات في الخَدر، وخارجه، تختلط الأوحال في الرّاسبوتيتسا. القطار العابر لسيبيريا هو اندحار الزّمن. أغوص في نوع من الإسبات الحديديّ. خمول أتمرّغ فيه بتلذّذ، وأنا أعلم بما ينتظرني في الأشهر القادمة. أبالغ في الاستراحة أثناء النّهار حتّى لم يبق لي من التّعب ما يجعلني أنام في اللّيل.

مأساة البشر ذوي الوجود الروائيّ هي أن يُنظر إليهم كمختلقي حكايات

حرائق عملاقة تلتهم التّيغة في ملايين من الكيلومترات المربّعة وتضيف إلى الضّياء الخافت بريق الأتانين. القطار يدخل أحيانًا في ليالٍ من الدّخان الأبيض يخز العيون حتّى داخل المقاصير. وعلى ضوء النّيران والضّياء الليليّ أقرأ في صحيفةٍ قصّةَ هارون، جبليّ شابّ كان ضحيّة حادث في سلسلة الجبال الأميركيّة خلال الشّهر الماضي: قالب التفّ على ذراعه اليمنى حينما كان يتسلّق خورًا. ظلّ ثلاثة أيّام محصورًا على شفير الهاوية، ولحمه منسحق تحت الصّخرة. إلى أن قرّر أن يقطع ذراعه بمدية صغيرة. يروي أنّه أحسّ بألم، في لحمه في البداية، ثمّ في الطُّنُب، وأخيرًا في العظم. ثمّ نزل إلى الوادي داميًا، مبتور الذّراع. ولد جيّد، وحكاية جميلة! ذلك ما يلزمني تمامًا: عزيمة، واستهانة بالجسد، وأخيرًا إرادة المضيّ قُدُمًا، دائمًا، أيًّا ما يكن.

ذات صباح، بينما كان سرغاي ونينا يهجمان على دجاجة ثانية مدخّنة، طردت إنارة غريبة سطوع الفجر الفولاذيَّ. أطللت من نافذة القطار. كانت بيقال هي التي تقوم مقام عاكس عملاق يردّ إلى السّماء أشعّة الشّمس التي تنفذ عبر غيوم المُزْن. الخطّ ينحرف عن البحيرة جنوبًا نحو تشيتا. بعد بضعة أسابيع، إذا جرت الأمور كما أشتهي، سأتقدّم مشيًا على حافة الضّفّة الشّرقيّة لبيقال. عدت إلى مرقدي الخشبيّ وجلعت أفكّر.

لأوّل مرّة منذ أشهر، أحسّ تنامي الخوف بداخلي، وطَرْق عجلات القطار على فولاذ السّكك يجعله يغوص مع كلّ طرقة مثل مسمار في القلب. فرط شجر في تلك التّيغة، فرط بياض في آجام السّنادر، فرط انسحاق تحت السّماوات، وماذا نقول عن ذلك السّهل الذي ليس له حدود، الأكثر هولًا من سجن، لأنّه لا يوجد هنا، أمام الأفق، حتّى مكان يمكن الهروب إليه...

تصفّحتُ المسير الطّويل لسلافومير رافيتش، الكتاب الذي أعرفه عن ظهر قلب، والذين أدين له بوجودي هنا، ممدّدًا على المرقد العلويّ وسط فوحان الدّجاج، في قطار روسيّ منطلق نحو الشّرق عبر الغابة السّيبيريّة الكبرى. اكتشفت المسير الطّويل في طبعة جيب يرجع عهدها إلى السّتّينات. كنت في سنّ الخامسة عشرة وعشت مع تلك الحكاية أولى تلك اللّيالي التي نذرتها كلّها لقراءة سيلين ولورانس، ولندن، وهامسن، وروائيّين روس.

الصورة
سلافومير رافيتش
الجندي البولندي سلافومير رافيتش (1915 - 2004)؛ مؤلّف كتاب "المسير الطويل" (Getty)

رافيتش كان ضابطًا بولنديًّا عمره أربع وعشرون سنة، تمّ إيقافه خلال الحرب العالميّة الثّانية من طرف المفوّضيّة الشّعبيّة للشّؤون الدّاخليّة، وإبعاده على متن القطار ومشيًا على القدمين إلى معسكر مساجين يبعد ثلاثمائة كيلومتر تحت القطب المتجمّد الشّماليّ السّيبيريّ، في تايغة ياقوتيا. أشغال شاقّة، شتاء جليديّ، حياة لا تليق بالإنسان: الغولاغ. كان رافيتش مجبرًا على قضاء عقوبة بعشرين سنة. ذنبه؟ أنّه بولنديّ. أمله الوحيد؟ الموت أو الفرار.

بعد اعتقال بستّة شهور، أي في نيسان/ أبريل 1941، فرّ إلى التّيغة، في أوج الشّتاء، مع زمرة من ستّة رفاق: بولنديّان آخران، لاتفيّ، ليتوانيّ، يوغسلافيّ، وأميركيّ. يوحّدهم أمران: الأوّل أنّهم تحطّموا على الرّصيف الصّخريّ للرّعب الأحمر الذي دشّنته ثورة أكتوبر الكبرى وواصلته تصفيات ستالين؛ والثّاني أنّهم رفضوا – حتّى وإن كلّفهم ذلك حياتهم – مصير العبيد الذين يوعَدون به. لم يكن لهم من خيار سوى أن يتّخذوا الجنوب قبلتهم. نحو جزر الهند. لم يكن لهم زاد ولا خرائط أو عُدّة أو أسلحة. ولمّا كانوا لا يتمثّلون جيّدًا جغرافيا آسيا العليا، تصوّروا أنّهم سيبلغون بحر البنغال في بضعة أسابيع، دون أن يعلموا أنّ آلاف الكيلومترات تفصلهم عنه. مسكونين باستعادة حرّيّة سرقها منهم المأمورون بالتّصفية في موسكو، كانوا يتقدّمون مثل وحوش مطارَدة، بلا استراحة، طيلة سنة، لا يتبعون سوى الاتّجاه الأصليّ الجنوبيّ الذي توحي به الشّمس. قطعوا في مسيرة طويلة بلا رجعة تايغات سيبيريا، وبيقال، وبورياتيا، وسباسب منغوليا، وصحاري غوبي وتسايدام، وهضاب التّبت، وسلسلة الهيمالايا وأدغال سيكيم، وتقدّموا عابرين القطاعات العرضيّة المناخيّة الحيويّة الكبرى التي تجعل من آسيا العليا أحد الأفضية الأشدّ قساوة، والأكثر روعة ووحشيّة على سطح الأرض. رسموا خطوة خطوة مسارًا مهيبًا، عملًا فنّيًّا جغرافيًّا يشجّ جناح مُصالبه أوراسيا من شمالها إلى الخطوط الجنوبيّة المتوازية شَجّ ضربةِ سيف. أربعة منهم قضوا نحبهم في الطّريق. الباقون الذين أردتهم الآلام إلى ما يشبه الجثث بلغوا نهاية كابوسهم بعد سنة من فرارهم وآواهم الجيش البريطانيّ في جزر الهند.

سينشر رافيتش حكايته عام 1956 في أوروبّا الغربيّة وستكون محنته الأخيرة أن يواجه شكّ عدد من الرّحّالة وعلماء الجغرافيا الذين رأوا في مثل ذلك الهرب مجرّد خرافة. مأساة البشر ذوي الوجود الرّوائيّ هي أن ينظر إليهم كمختلقي حكايات حين يروون حياتهم... عند صدور الكتاب، بعض المكتشفين - في مقدّمتهم بيتر فليمنغ -، دقّقوا في فصول الكتاب، ولاحظوا فيه أشياء غير سويّة، وغفولًا، وأخطاء في وصف أماكن، وعدم دقّة في المسائل الإثنوغرافيّة، ومبالغات (كادّعاء رافيتش أنّه بقي عشرة أيّام دون شرب)، ومشاهد هاذية (كلقائه بزوج من الْيِتي). بدت الملحمة المفرطة في الخيال، والعمل الباهر المفرط في لاإنسانيّته، والحكاية المفرطة في عدم دقّتها بعيدة عن الحقيقة. وقد أعلن فليمنغ بقوّة ما استخلصه في الصّحافة: "للأسف الشّديد، أجدني مضطرًّا إلى اعتبار مجمل هذا الكتاب الممتاز خيالًا صرفًا... فالكاتب لم يؤدّ الرّحلة إطلاقًا". ما يعني أنّ رافيتش محتال، وهارب مزيّف لم يتسلّل إلّا من خياله. ولا يبقى أمام القرّاء المخدوعين إلّا أن يضمّوا المسير الطّويل في مكتبتهم إلى جانب ماركو بولو، وهربرت جورج ويلز، وسويفت، وجول فيرن، ومونْخهاوْزن، وهوميروس في جناح الرّحلات العجيبة أو حكايات المتحذلقين.

الصورة
معتقل الغولاغ
من "معتقل الغولاغ" في سيبيريا، 1927 (Getty)

جهود مناوئي رافيتش كان لها أيضًا جذر سياسيّ، فالكتاب صدر في فترة كانت خلالها أوروبا لا تريد أن تعلم شيئًا عن التراجيديا السّجنيّة الرّوسيّة: أرخبيل الغولاغ لم يُكتشف، ويوم في حياة إيفان دنيسّوفيتش لم ينشر بعد، فقد كان سولجينستين لا يزال في المعتقلات، وفي الدّيمقراطيّات الغربيّة، كان الشّيوعيّون مكلّلين بهالة النّصر على ألمانيا النّازيّة. وها إنّ بولنديًّا يزعم أنّه خرج من تايغات الجحيم، ليرسم جداريّة عن رعب المعتقلات. كيف يمكن أن نقبل عام 1956 بإمكانيّة الهرب من معتقلات وجودُها نفسه ليس معترفًا به رسميًّا؟

أجاب سلافومير رافيتش بحياء على الهجومات: "أودّ أن أذكّر الجميع بأنّنا كنّا فارّين جياعًا، هاربين من رعب لا يفهمه إلّا من أصابته الشّيوعيّة في جسده. لا أتذكّر أيّ طرق أو أيّ جبال عبرنا؛ لم نعرف قطّ أسماء أغلبها ولم يكن لنا خرائط ولا معرفة مسبقة بالمسألة". قوبل الكتاب مع ذلك بالرّواج قبل أن ينساه الجميع، باستثناء قلّة من الأوفياء الذين انتظروا إعادة نشره بحماس دينيّ. أمّا رافيتش فقد تسوّر بالصّمت. في لندن، حيث لا يزال يعيش.

بعد عمليّة الهرب بستّين عامًا، يحملني القطار العابر لسيبيريا نحو مشارف بَيقاليا لأنّي أريد أن أقتفي على قدميّ، وعلى صهوة حصان، وعلى درّاجة، على إيقاع جهدي الجسديّ وحده، مسار رافيتش ورفاقه في الهروب. ولا يهمّني أن تكون ملحمتهم خرافة أم لا. الأبحاث التي أجريتها في باريس، قراءاتي، تأمّلاتي أقنعتني بما يلي: حتّى وإن كذب رافيتش، فإنّ آخرين فرّوا من عالم المعتقل السّوفييتيّ نحو الجنوب. رهبان أرثوذوكس، كهنة بوذيّون، منشقّون سياسيّون، زيك، جنود ضائعون، مغول، يهود، بوريات، تبتيّون، عديدون هم الذين تاقوا إلى الحرّيّة وفرّوا من سيبيريا في مسار شبيه بذلك الذي انتهجه رافيتش. "طرق الحرّيّة" تلك لا تنحصر في الطرّيق التي سارت فيها مجموعة من الفارّين المعزولين، بل تتكشّف عن ممرّ عبور مهم تزدحم فيه مئات وآلاف (كيف يمكن إحصاؤها؟) من الرّيفوجنيك.


* مقتطف من كتاب "محور الذّئب: من سيبيريا إلى الهند، على خطى الفارّين من الغولاغ"؛ العمل الحائز على "جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة" 2023 في فرع الرحلة المترجمة. تقديم وترجمة: أبو بكر العيادي

المساهمون