محمود أمين العالِم: في الخروج من الهشاشة النظرية

10 يناير 2021
محمود أمين العالِم
+ الخط -

حين نطّلع على فهرس كتاب "الفكر العربي بين الخصوصية والكونية" لـ محمود أمين العالم (1922 - 2009)، سنقف على ما يشبه معجماً مُصغّراً بالإشكاليات التي انشغل بها العقل العربي المعاصر: الهوية، الدين، السياسة، الحرية، الأصولية، العلمانية... وهي جميعها من متداول الإشكاليات التي تحضر بكثرة في الأبحاث والدراسات. إلا أننا سنجد في هذا الفهرس، ومن ورائه الكتاب، عنايةً خاصة بمفهومٍ وإشكاليةٍ لعلّنا لا نجد من اهتمّ بهما بشكل جدّي، ونظر لهما كموضوع بحثٍ مستقل، قبل مؤلف هذا الكتاب، حيث يتناول علاقة الثقافة العربية بالنظرية، فيُعنون أحد فصول كتابه بـ"الهشاشة النظرية في الفكر العربي"، ونجد فصلاً آخر بعنوان "التاريخ والنظرية". ولعلّ هذين الفصلين هما الإضافة "النظرية" الوحيدة في هذا الكتاب، وما "النظريّ" إلّا ذلك الفكر القابل للانفصال عن الموضوع المطروح للفهم والتعالي عن المحدّدات الزمانية والمكانية التي تحكمه، ومن ثمّ بناء مقولات متينة ومرنة حوله.

نحن في 1996، حين دفع العالم بهذه الدراسات مجمّعة في كتاب إلى "دار المستقبل العربي". في المقدّمة، يشير إلى مجموعة من السياقات التي أثرّت في عمليّتي التفكير والتأليف؛ أولّها موقع هذا العمل من مجمل إصدارت المفكّر المصري. يقول: "يمكن لهذا الكتاب أن يكون الجزء الرابع لكتب ثلاثة سبقته؛ "معارك فكرية" (1965)، و"الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر" (1986)، و"مفاهيم وقضايا إشكالية" (1989)".

كل ممارسة تبقى ضالة ما لم يضئ لها الفكر النظري الطريق

أما السياق الثاني، فهو تاريخي محلّي، يتعلّق بانهيار مشاريع النهضة العربية بشكلٍ متتابع، وأبرزها المشروع الناصري بما خلّفه من إحباطات وشعور بالغبن في نفوس المثقفين خاصة، والمجتمعات عامة. أخيراً، يضيف سياقاً ثالثاً يمكن أن نسمّيه بالتاريخي العالمي، ففي التسعينيات تبِع الانهياراتِ الداخلية انهيارُ الكتلة الشيوعية بما كانت تعنيه من توازنات في العلاقات الدولية، وبدأت مرحلة أحاديّة القطب يجري الترويج لمقولاتها على أعلى نسق بمسمّيات مثل العولمة والحضارة الكوكبية وانتصار الرأسمالية النهائي ونهاية التاريخ، وهي تسميات لا تعني بحسب العالم سوى تأسيس هيمنة تستعدّ لابتلاع الخصوصيات المتنوّعة. وفي ظلّ هيمنةٍ مرتبطة بمصالح اقتصادية كبرى، فإنّ ذلك يعني وجود اشتغال على إهدار العقل النقدي وترتيب تفاوت معرفي وقيَمي، وإلّا لن تكون الهيمنة ممكنة.

يضع هذا السياق الثقافةَ العربية أمام خيارات منها ما يسمّيه العالم بـ"الإنكار الموضوعي للعولمة"، حيث تبدأ الثقافة العربية بإدانتها ثم تنكفئ على ذاتها وتدخل في نزعة سلفيّة، ما يُفضي إلى عزلة عن حقائق العصر، ومن ثمّ إلى مزيدٍ من إضعاف القدرة على مقاومة هيمنة المركز. مقابل ذلك، توجد دعوات للاندماج دون شروط في المنظومة العالمية بصرف النظر عما يستتبع ذلك من طمس للهوية وتسليم للثورات الاقتصادية، وهو ما يعتبره المؤلّف موقفاً "أقرب إلى الانتحار القومي والثقافي والذاتي".

يدعو العالم إلى ردة فعل تقوم على فهم شامل للّحظة التاريخية، ومن ضمنها مقتضيات العولمة، مع التمسّك بالهوية دون استعلاء شوفيني، وبالمصالح القومية عبر تجذيرها معرفياً وفهم تناقضاتها مع حسابات النظام العالمي.

يرى العالِم أن غياب التنظير قد يقود إلى موت حضاري

بعد هذه الإضاءة الموسّعة التي يسمّيها المؤلف بـ"الخريطة الصراعية للوضع العالمي الراهن"، ينتهي إلى تساؤل: "أين موقعنا وموقفنا نحن العرب منها؟". تساؤل سيقوده إلى تلمّس مجموعة من المفاهيم والإشكاليات، أو بالأحرى المفاهيم-الإشكاليات، لمعرفة ممكنات المقاومة التي تتوفّر لدى الفكر العربي في معركةٍ لم يخترها وعليه أن يخوضها، وإلا ستُسفر نتائجها عن موت حضاري.

هكذا، يصل المفكّر إلى قضية "الهشاشة النظرية"، وهنا يعود إلى نصّ سابق له بعنوان "بلاش فلسفة"، حيث يؤكّد على مزيدِ اقتناعه بأنّه ليس ثمة من خطر على مجتمعاتنا أكبر من هذا التعبير وما يقف وراءه من تمثّلات مضادة للفلسفة والفكر النقدي بشكل عام، وخصوصاً الفكر النظري باعتباره "مسعىً إدراكياً تفسيرياً يقوم على تنظيم وإعادة تشكيل مجموع الحالات التي تتكوّن منها وبها الأشياء والوقائع والأوضاع والعلاقات والمشاعر وأشكال السلوك والممارسات والتعابير المختلفة".

يرى العالم أن هذا التشكيل الذي يقوم به الفكر النظريّ يضيءُ الواقع ويضفي عليه المعنى ويربط بين المصادر والأسباب والإمكانيات والغايات، كما يمهّد للفكر النقدي والأهم من ذلك لفُرَصِ تجاوز الوضعيات القائمة. بعبارة أخرى، فإنّ كلّ ممارسة تبقى ضالّة ما لم يضئ لها الفكر النظري الطريق.

مع غياب هذا النوع من الفكر، وقعت الثقافة العربية في هنّات يعدّد العالِم بعضَها، فيذكر الشَتات الفكري، والتخليط، والانتقائية، والميوعة، والتسطيح، وسيادة الثوابت النصّية، والبحث عن الثنائيات التوفيقية، والاطمئنان إلى التعميمات المطلقة، والركون إلى الإسقاطات الذاتية والأيديولوجية. ثم إن هذا الوضع الناتج عن غياب الفكر النظري يتحوّل إلى سبب إضافي لإعادة إنتاج هذا الغياب.

ضربت الانتفاضات العربية مثلاً على صحّة طرح العالِم

تبدو الصورة التي يقدّمها العالِم عن واقع الثقافة العربية في غاية القتامة، لكنه يؤكّد أن إنتاج فكر نظريّ أمرٌ ممكن بشرط توفير أرضية من السعي للانتصار على أزماتنا، بأبعادها الداخلية (ثقل التراث على الحاضر، ضرب الأصولية لكل محاولة تحديث مهما كانت...) والخارجية (الهيمنة الإملائية والاستغلالية التي توجّه المواردَ عكس متطلبات التنمية...). غير أن توفير هذه الأرضية يحتاج هو الآخر إلى وعي نظري بما يقتضيه من شجاعة النقد العقلاني وامتلاك المعرفة بأدوات الإنتاج النظريّ. ويشدّد العالِم على ضرورة عدم تأجيل أيّ امتلاكٍ معرفيّ - بما فيه المعرفة النظرية - بذريعة عدم توفّر شروط تبيئته، لأن ذلك يؤدّي إلى تراكم التخلّف والتبعية. ويضرب مثالاً بضرورة امتلاك التكنولوجيا المعلوماتية - التي كانت في بداياتها زمنَ تأليف هذا الكتاب - دون انتظار استكمال امتلاك الثورات العلمية السابقة.

يلاحظ صاحب "ثلاثية الرفض والهزيمة" أن تاريخنا المعاصر يكشف بأن المشاريع النهضوية لم تنقصنا، بل يقول بنبرة تهكّمية: "ما أكثر هذه المشاريع"، ثمّ يشير إلى أنّ ما كان ينقصها هو عدم استنادها إلى "رؤيةٍ نظريّة معرفيّة نابعة من حقائق عصرنا واحتياجاتنا". ومَن يستطيع أن يلتقط الإمكانات المتاحة، ومن ثمّ يوفّر إطاراً أوّليّاً للإرادة والفاعلية، غير الفكر النظري؟

الفكر العربي

عقدٌ ونصف يفصل زمنياً بين إطلاق محمود أمين العالِم لهذه الأفكار طيّ كتابه، ولحظة الانتفاضات العربية، من تونس إلى سورية. كانت لحظةَ عنفوان شعبي يمكن القول - على مسافة سنوات منها اليوم - أنها لم تغيّر إلا الشيءَ القليل: بعض الرؤساء وبعض النصوص الدستورية. أما أثمان هذه التغييرات الطفيفة فكانت باهظة. من السهل، هنا، أن نقول بأن هذه الحركات الشعبية افتقدت إلى الهِداية النظرية، وأن "الثورات المجهضة" أتت لتضرب مثلاً جديداً على أزمة الفكر النظري التي تحدّث عنها المفكّر المصري. يبقى أنّه أشار إلى أن توفير مناخ ملائم للإنتاج النظري أمرٌ ممكن في حال توفّر الوعي والإرادة، وذلك هو الدور الاجتماعي العميق الذي ينبغي أن تلعبه شريحةُ المثقّفين.

المساهمون