تتعدّد القراءات لمشروع شمس الدين سامي فراشري، الذي عاش ــ بوصفه مواطناً عثمانياً ــ مرحلةً حرجة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وإن كانت قاعدته الأساسية مبنية على إصلاح سياسي وفكري ولغوي قوامه الحداثة والتحديث في مواجهة تراجع دولته والتدخّل الأجنبي في شؤونها.
انتماء المثقّف الموسوعي والسياسي (1850 - 1904) إلى عائلة ذات مكانةٍ في الطائفة البكتاشية أكسبه موقعاً متقدّماً ضمن نُخَب بلاده في تلك الفترة، وتلقّيه تعليماً تقليدياً جعله يتقن، إلى جانب لغته الأمّ، الألبانية، كلّاً من التركية والفارسية، ومعرفة جيدة بالعربية، قبل أن يتعلم لغات أوروبية أخرى كاليونانية والإيطالية والفرنسية. وعبر الأخيرة اطّلع على مدارس الغرب الفكرية ونظرياته السياسية.
شخصية لا تزال موضع اهتمامٍ ودرْسٍ شرقاً وغرباً
بين ألبانيا وتركيا، ليس بالمعنى المكاني فحسب، إنما بإحالاته الثقافية وانعكاسه على الحراك السياسي الدائر في كلتا الجغرافيّتَيْن، برزت هذه الشخصية التي لا تزال موضع اهتمامٍ ودرْسٍ شرقاً وغرباً، وآخرها ما تضمّنه كتاب "شمس الدين سامي فراشري: تشابك العثمنة والقومية والإسلام" من مقالات وأبحاثٍ قدّمها وترجم بعضها الكاتب والمؤرخ الكوسوفي السوري محمد م. الأرناؤوط، وصدر حديثاً عن "الآن ناشرون وموزّعون".
تحضر مسألة مهمّة في فكر فراشري، بحسب دارسيه، والتي يعبّر عنها في مسارين متوازيين لكنّهما رغم اختلافهما الظاهر فإنهما لا يتعارضان لديه، الأوّل يتمثّل بتنظيراته الشاملة والمعمّقة لمعنى أن تستعيد الفكرة العثمانية حضورها في نظام دستوري وبرلماني وتعدّدي، والثاني يعترف بالوطنية الألبانية ضمن منظور واقعي يتنبّه إلى أن سقوط الدولة الجامعة للشعوب التركية والعربية والكردية والبلقانية يجب ألا يعني فقدان تلك المكوّنات لأُطُر سياسية تجمع كلّ واحدة منها على حدّة.
رحل مؤلّف كتاب "بيسا أو كلمة العهد" قبْل تلاشي الدولة العثمانية بنحو عقدين، ما يجعله صاحب نظرةٍ استشرافية يوضّحها الأرناؤوط في تقديمه الكتاب،
حين يتحدّث عن التيّارات الثلاثة التي بدأت بالتبلور ضمن النخبة الجديدة في المشرق العربي أو الأناضول أو البلقان بعد تجميد الدستور العثماني الأول عام 1878. أوّل هذه التيّارات يريد للدولة أن تكون قائمة على المواطَنة المتساوية التي تحفظ حقّ المكونات المختلفة، وثانيها تيّار الجامعة الإسلامية الذي يتجاوز حدود الدولة لاستقطاب النظام السلطاني في وجه الغرب، وثالثها تيّار القومية الإثنية الذي فُهم باعتباره يدعو لـ"دولة قومية" مستلهَمة من الماضي لتستبدل أو ترِث الدولة العثمانية أو قسماً منها.
في هذا السياق، يلفت الأرناؤوط إلى الدور المهمّ الذي لعبة فراشري وسط هذه التيّارات الثلاثة، إذ يعتبر أحد روّاد "القومية الثقافية" و"القومية السياسية" التركية والألبانية، وبالتحديد الشخص الذي نظّر وساهم بقوّة في خلق الهوية القومية لدى شعبَيْن كان لهما دورهما الكبير في إرغام السلطان عبد الحميد الثاني عام 1908 على إعادة العمل بالدستور المجمّد.
ولا يغفل محرّر الكتاب اهتمام اللغوي والإصلاحي العثماني الألباني بما نشره من مؤلّفات وقواميس في جعل العربية لغةً معبّرة عن عصر جديد، كما أنه كان يتمنّى لو يعرف اللغة الكردية ليقوم بما قام به من أجل الأتراك والألبان والعرب لـ"جعل اللغة أساس الوعي بالهوية القومية وليس الدين، وهذا لا يعني أنه كان معادياً للإسلام بل إنّه كان سبّاقاً أيضاً في الانفتاح على الإسلام الحضاري والدفاع عنه في وجه الكتابات الأوروبية الجديدة التي كانت تربط بين الإسلام والتخلّف، كما أنه كان يرى في الأفق إمكانية لرابطة ما بين الدول التي تضمّ الشعوب المسلمة".
من جهته، يشير الباحث آغا سري لفند، في دراسته "العصر الذي تشكّل فيه شمس الدين سامي"، إلى إصدار فراشري كتباً تتضمّن مواضيع لم يتمّ التطرّق إليها سابقاً مثل "قواعد التنقيط" و"اللغة" وغيرهما من الكتيّبات التي نشرها، بالإضافة إلى مؤلّفاته التي ظهرت في ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر مثل "الأبجدية المختصرة" و"كتاب تعليم التركية بالطريقة الحديثة" الموجّهين للأطفال، وكذلك قواميس اللغتين التركية والفرنسية التي طبع بعضها في أربع طبعات من كثرة إقبال الشباب عليها، أو "المعجم العام الموسوعي في الجغراقيا والتاريخ" الذي صدر في ستّة مجلدات.
كان من أبرز المبشّرين بالعلوم الحديثة لمواجهة الاستبداد
إصلاح المنظومة التعيلمية يتجلّى بوضوح في دراسة "سامي فراشري: في الأدب والفيلولوجيا التركية" للباحث حسن كلشي الذي يستعرض آراءه المتخصّصة في اللغويات، حيث رأى "عدم ملائمة الأحرف العربية للنظام الصوتي للغة التركية"، و"كيف أن التركية تحوّلت من لغةٍ أصيلة وقديمة إلى لغة خليطة لم تعد فيها لغة عربية ولا فارسية ولا تركية"، ليخلص إلى أن "الأدب المكتوب بهذه اللغة تشوّه وتحوّل إلى بلاغة، إلى تلاعب بالكلمات بدون أيّ مضمون"، وأنّ "هذا الأدب قد انفصل تماماً عن الشعب وحياته ومُثله، ولذلك فإن الشعب أبدع أدبه الخاصّ لنفسه".
ويؤكّد أن فراشري كان من أبرز المبشّرين بالعلوم الحديثة واستطاع إقناع الناشرين بإصدار كتب جيب تصل إلى عموم القرّاء وتحمل مضامين علمية وفكرية واجتماعية مناهضة للاستبداد الحميدي الذي كان من أكبر المعادين له، ومن أبرز عناوينها "المدنيّة الإسلامية" و"الإنسان" و"الإنسان مرّة أخرى" و"النساء". وفي كتابه الأخير تحدّث بوضوح ومباشرة عن أنّ "الدرس الأول للتمدّن هو الحاجة إلى تحرير المرأة"، وأن النبي محمّد دعا إلى تعليم النساء مثل الرجال، وأن حجاب المرأة لا علاقة له بالدين بل بالعادات والتقاليد.
"شمس الدين سامي فراشري: إسهامه في تشكيل الهويتين القوميتين الألبانية والتركية" عنوان دراسة بولنت بيلمز، التي تقرّ بأن المثقّف كان حداثوياً في الدرجة الأولى، ينظر إلى المشاريع الأخرى (الفرعية) كأداة من أجل تشكيل هوية جماعية حداثية داخل مجتمع متمدّن، وأن الأمّة الحديثة هي الشكل الأكثر تطوّراً (تمدّناً) للمجتمع الإنساني، وأن "الهوية القومية" هي الهوية الجماعية المثالية، وأن "الدولة القومية" هي الإطار الثقافي والاقتصادي والسياسي الأفضل لها.
أمّا محمد م. الأرناؤوط، فيرى في دراسته "فراشري: من الدولة العثمانية المشتركة إلى الدولة القومية الألبانية"، بأنْ يؤخَذ بالاعتبار عاملان مؤثّران في تكوين شمس الدين، الأوّل هو انحداره من عائلة "بكَوَات" كانت تمثّل الزعامة المحلّية المتوارثة التي قضت عليها الإصلاحات العثمانية بعد 1831، لذلك نجد في كتاباته صورة إيجابية عن وضع الألبان قبل الإصلاحات الجديدة حين كانوا يعتمدون على قوّتهم وسلاحهم فقط لخدمة مَن يحتاج إليهم من الوُلاة والحكّام.
العامل الثاني، كما يفسّره محرّر الكتاب، يرتبط بالأوّل، وهو أن الإصلاحات الجديدة لم تنطلق إلّا بعد أن قضت الحكومة على الإنكشارية وعلى الطريقة البكتاشية سنة 1820 (طريقة صوفية تحوّلت إلى طائقة)، والتي ينتمي إليها شمس الدين وشقيقاه نعيم وعبدل، الذين لعبوا أدواراً سياسية مهمّة في تلك المرحلة. ومن هنا، فإنه انتقل إلى إسطنبول سنة 1871 بموقف مسبق من الإدارة العثمانية الجديدة. وكانت الثقافة الأوروبية الحديثة ممّا ساهم في تبلور وعيه وموقفه لاحقاً، وهي ثقافة حصل عليها نتيجة لإتقانه الفرنسية والإيطالية واليونانية، ويضاف إليها اطّلاعه على الثقافة العثمانية الجديدة التي وجدها في إسطنبول (ثقافة عصر التنظيمات).
ويقدّم الأرناؤوط دراسة أخرى في الكتاب بالاشتراك مع أمين يوسف عودة بعنوان "إسهامات فراشري في مجال اللغة العربية وآدابها"، يعودان فيه إلى إصداره قاموساً (عربياً – تركياً) عام 1889 كان الأوّل من نوعه؛ لأنه لم يعتمد على جذر الكلمة كما في المعاجم التقليدية، وإنما اعتمد على الطريقة الأوروبية الحديثة التي أصبحت مرغوبة أكثر، لافتَيْن إلى أن هذه اللغة العربية الرشيقة والمصطلحات الجديدة التي نحَتَها واستخدمها شمس الدين لأوّل مرة في كتابه "همّة الهمام" أثارت جدلاً واسعاً في صحافة إسطنبول بين المعمّمين الذي تخرّجوا من المدارس التقليدية واعتبروا أن اللغة العربية مقدّسة لا يجوز المساس بها.
يُختتم الكتاب بدراسة لنتالي كلير تحت عنوان "شمس الدين سامي أو ظهور قومية ألبانية مسلمة؟"، التي تقول فيها إن "فراشري كان واضحاً في نقطتين مهمّتين: الاعتماد على ’مبدأ القوميات‘، على اعتبار أن الانتماء القومي أهمّ من الانتماء الديني، والأهمّية التي كان يوليها للتعلّم في اللغات المحلية لكي ترتقي هذه اللغات إلى مستوى اللغات الأدبية".