رأى محمد م. الأرناؤوط أنّ هناك تشابكاً بين أربع مناطق متداخلة فكرياً وثقافياً، متمثّلة في أوروبا الغربية، وخاصّةً إيطاليا وفرنسا، والبلقان، والأناضول، والمشرق، وهو ما دفعه إلى دراستها من أجل التعرّف عليها بشكل أعمق، ضمن مشروعٍ يشرف عليه "معهد الدراسات الشرقية" في كوسوفو، والذي أداره في السنوات الأخيرة وعنه تصدر مجلّة "دراسات شرقية" بخمس لغات؛ العربية والألبانية والتركية والفارسية والإنكليزية.
استهل الكاتب والباحث الكوسوفي السوري بهذه المقاربة المحاضرةَ التي نظّمها "المعهد الفرنسي للشرق الأدنى- إفبو" في عمّان مساء الأربعاء الماضي، وأدارها الباحث عبد الحميد الكيالي، حول كتاب "شمس الدين سامي فراشري: تشابُك العثمنة والقومية والإسلام" الذي ضمّ مقالات وأبحاثاً قدّمها وترجم بعضها بنفسه، وصدر حديثاً عن "الآن ناشرون وموزّعون".
آمن فراشري بدولة عثمانية مبنية على التعدّدية الثقافية
لا يمكن استيعاب دور المثقّف الموسوعي والسياسي الألباني (1850 - 1904)، بحسب الأرناؤوط، بمعزل عن تأثُّره بأفكار الثورة الفرنسية، وإيمانه بالدولة القومية بديلاً عن الدولة الدينية، واهتمامه بالأدب؛ حيث ألّف أوّل رواية باللغة التركية، وكان من روّاد المسرح الناطق بها، إلى جانب تنظيراته للوطنية الألبانية من جهة، وانفتاحه على الإسلام الحضاري وسعيه لأن تصبح العربيةُ لغةً معبّرة عن عصر جديد من جهة أُخرى.
وأكّد المُحاضر أنّ الألباني، اليوم، لا يستطيع فهم تاريخه بشكل جيّد بالاستناد إلى ما يُكتب بالألبانية، بسبب هيمنة الأيديولوجيا والأسطرة، إذ يُنظر إلى شمس الدين سامي فراشري بوصفه مؤدلِج القومية الألبانية فقط، لذلك يجب الرجوع إلى ما يُدوَّن حوله باللغات الأوروبية والتركية، واستعاده علاقته بالثقافة العربية كذلك.
وأشار الأرناؤوط إلى أنّ فراشري آمن بدولة عثمانية باسم السلالة التي تحكمها، لكنّها مبنية على التعدّدية الإثنية والثقافية، وتحفظ لجميع شعوبها الحقَّ في التعبير عن لغتها وثقافتها وهويتها، ودعا إلى أن تكون دولة دستورية تقوم على المواطنة المتساوية، انطلاقاً من قراءاته المعمَّقة التي قادته إلى أنّ العثمنة تصلح لأن تُؤسّس كياناً سياسياً قومياً موحَّداً، لكن لا وجود للغة عثمانية إذ كانت تُشكّل المفردات الفارسية والعربية غالبية مفرداتها.
وبسبب آراء شمس الدين سامي المناهضة للاستبداد، والتي بثّها في أعماله الروائية والمسرحية وتعرَّضت إلى المنع إبّان حكم السلطان عبد الحميد الثاني ولم يتمّ رفع الحظر عنها إلّا بعد عام 1908، وجرى حصارُه وإذلاله وعاش تحت الإقامة الجبرية في أيامه الأخيرة، وفق المُحاضِر.
وُضع بسبب آرائه تحت الإقامة الجبرية في أيامه الأخيرة
وحول موقفه حيال الدين، أوضح الأرناؤوط أنّ صاحب كتاب "الأبجدية المختصرة" نظر إلى الإسلام بوصفه مرجعيةً للتمييز القومي ودافع عنه في وجه الكتابات الأوروبية التي ربطت بينه وبين والتخلُّف، وكان يُقدّر مكانة الدولة العثمانية لدى شعوب العالم الإسلامي، ويرى إمكانية لرابطة ما بين الدول التي تضمّ الشعوب المسلمة، دون أن يكون النص الديني مصدراً أساسياً للتشريع والدستور.
من جهة أُخرى، توقّف صاحب كتاب "البلقان من الشرق إلى الاستشراق" عند رأي فراشري بأنّ العربية تجمّدت في عصره مع تقدُّم العلوم وأنها تحتاج إلى ترشيق وتجديد؛ إذ اعتبرها لغةً عالمية ولا تعني أبناءها فقط، لذلك وضع اجتهاداته في كتاب عن لغة الضاد عام 1884 تسبّب في غضب بين أوساط الفقهاء والمعمّمين الذي تخرّجوا من المدارس التقليدية، لإدخاله مصطلحات حديثة لم تكن موجودة فيها من قبل، وأصدر قاموساً (عربياً - تركياً) عام 1889 كان الأوّل من نوعه؛ لأنه لم يعتمد على جذر الكلمة كما في المعاجم التقليدية، وإنما اعتمد على الطريقة الأوروبية الحديثة.
وختم الأرناؤوط مداخلته بالإشارة إلى انفتاح شمس الدين سامي على ثقافات عديدة وتعلُّمه عشر لغات كتَب بمعظمها العديد من مؤلّفاته، وسعيه إلى إصلاح سياسي وفكري ولغوي يقوم على الحداثة والتحديث، تؤكّد على عدم انغلاقه القومي وفق ما تُروّجه بعض التصوُّرات حول شخصيته وسيرته.