في ورقته "نقد نظرية الثقافة السياسية عربياً"، حاول الباحث الجزائري محمد حمشي الإجابة عن ثلاثة تساؤلات أساسية؛ ما الذي تعنيه أن تكون الثقافة السياسية نظرية؟ وما الذي تعنيه أن تكون الثقافة السياسية ثقافة؟ وما الذي تعنيه أن تكون الثقافة السياسية سياسيةً؟ وتحدّث أستاذ العلاقات الدولية في الجلسة الخامسة من أعمال الدورة التاسعة لـ"مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية"، والتي عُقدت عند التاسعة من صباح اليوم الأحد في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بالدوحة، بمشاركة أستاذ العلوم السياسية والباحث المغربي عبد الكريم أمنكاي، وأدارها الباحث الفلسطيني أحمد قاسم حسين.
عاد حمشي إلى ثلاثة من مؤلفات المفكّر العربي عزمي بشارة، وهي "المجتمع المدني: دراسة نقدية"، و"الانتقال الديمقراطي وإشكالياته"، و"في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي"، إلى جانب مؤلفات كلّ من الباحثين مرغريت سومرز وستيفن ويلش، مبيّناً أن المفاهيم تتشكّل في سياقات محدّدة بأبعادها الزمانية والمكانية والحقل المعرفي أو الجماعة المعرفية المعينة، ويبدأ المفهوم بالارتحال بين هذه الأبعاد الثلاثة، حيث تواصل صيرورة تشكّلها باستمرار.
وأشار إلى أن بعض المفاهيم تتحوّل مع كثافة استخدامها إلى نظريات قائمة بحدّ ذاتها، أو على الأقل تقاليد بحثية شبيهة بالنظريات، مفترضاً أن فهم هذه التحوّلات التي تصيب المفاهيم يحتاج إلى مقاربة من علم اجتماع تاريخ تشكّل المفاهيم (بعد سوسيوتاريخي)، وهي على تخوم ثلاثة حقول معرفية: علم السياسة أو السياسة المقارنة، وعلم الاجتماع السياسي، وعلم النفس السياسي.
عاد حمشي إلى ثلاثة مؤلفات للمفكر العربي عزمي بشارة
بالنسبة إلى مفهوم الثقافة السياسية، بيّن حمشي أنه أعيد اكتشافه في أواخر خمسينيات القرن الماضي مع صعود علم الاجتماع السياسي خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والذي عرّف نفسه بنفسه كيف يُميَّز عن علم السياسة من خلال التركيز على الشروط الاجتماعية للديمقراطية، وهو يقوم على الفصل بين المجتمع والدولة قبل دراسة العلاقة بينهما، ورافقه التحوّل من دراسة المؤسسات الرسمية إلى المواقف السياسية وسلوك التصويت، والجدل حول تأثير الاتصال الجماهيري على السلوك السياسي، والأهمّ من ذلك كلّه هو سياق الثورة السلوكية، حيث اعتمدت دراسات الثقافة السياسية على أدوات البحث الكمّي في جمع مواقف الناس تجاه جملة من القضايا والقيم، واعتبرت مهمة في تطوير ثقافة مدنية تساعد على ثبات النظام الديمقراطي.
ونبّه إلى أنه في هذه الفترة كانت هناك مخاوف أميركية من الانتفاضات الشيوعية، وحركات ما بعد الاستعمار في ما سميّ آنذاك بـ"العالم الثالث"، وكان لا بدّ من تبرير دعم أنظمة تسلّطية لأنها مناهضة للشيوعية بدعوى أن الثقافة السياسية غير ملائمة للديمقراطية، وبعد انهيار المعسكر الاشتراكي ومع تحوّل الغرب للدعوة إلى الديمقراطية في الدول التي صارت له حليفةً، ومع إنتاج المحافظين الجدد خطاباً يقول إن الاستبداد هو حاضنة الإرهاب الرئيسة، فقَدت نظريات الثقافة السياسية أهميتها، مستشهداً بمقولة عزمي بشارة "هكذا، بقدرة قادر ما عادت الثقافة شرطاً أساسياً للديمقراطية".
تحتاج النظرية إلى نقد حتى تطوّر نفسها إبستيمولوجياً
ورأى حمشي أنه خلال السنوات الأخيرة، ومسايرة لبعض أنظمة الحكم خاصة في المنطقة العربية التي تقول إن شعوبها غير مهيأة بعد أو غير صالحة بعد للديمقراطية، نشهد هذه العودة للحديث عن الثقافة السياسية، بحسب بشارة أيضاً. وبذلك تكون الثقافة السياسية مرّت بثلاث مراحل: التأملات التي ارتبطت بتقاليد فلسفية ممتدّة وهذه التأملات بطبيعتها كانت انطباعية ولم تكن ثمة نظرية عِلمية أو سببية يجري فحصها عند هؤلاء الفلاسفة؛ ثم انتقلت إلى مفهوم اشتقّ منه مؤسسوه فرضيات يجري اختبارها كمّياً في الغالب في سياق الثورة السلوكية، وهنا بدأت تظهر المحاولة التي لها طابعها القريب من العلم؛ ليتم تحوّل المفهوم بعد ذلك إلى نظرية يزعم أنصارها أنها عِلمية تبني ارتباطات سببية بصورة فجّة بين ثقافة المجتمع وبين سلوكه السياسي.
ولفت إلى أهمية أن يكون هناك - على المستوى العربي - نقدٌ لنظرية الثقافة السياسية ينطلق من سياق عربي انتقالي بفضل الانتفاضات العربية بموجتيها، ويقع على تخوم السياقات الاجتماعية السياسية التقليدية سواء التي أُنتج فيها خطاب الثقافة السياسية أو ارتحل إليها وأعيد إنتاجه فيها؛ وكذلك بالنظر إلى أعمال عزمي بشارة الثلاثة التي أشار إليها بدايةً، والتي تقف على تخوم الحقول المعرفية الرئيسة التي يجري فيها تداول خطاب نظرية الثقافة السياسية ما يجعله قادراً على العبور بينها بشكل أو بآخر.
وخلُص حمشي إلى أنه لا ينبغي صرف النظر عن نظرية الثقافة السياسية، ولكنها تحتاج إلى إبستمولوجية تأملية تدفع النظرية إلى التأمل في ذاتها وأن تنقد نفسها بنفسها، لتفحص متى تكون الثقافة السياسية مؤثرة على السلوك السياسي، ومتى يكون ثمة تآثر (تأثير وتأثُّر بالوقت نفسه)، ومتى لا يكون ذلك مهمّاً، وأن تدعم النتائج الكمية الكيفي، وتستخدم أداة لإثبات النظرية أو دحضها.