متحف القطارات في نورنبرغ.. أسفاً على محرّكات معطّلة

05 اغسطس 2021
(من المتحف)
+ الخط -

كيف يتقدّم التاريخ؟ عادةً ما تكون الإجابة: نُخب متنوّرة، قيادة سياسية طموحة، شعب نشيط... ماذا لو كانت الإجابة أبسط ومرئية أكثر. ها هو أحد المتاحف الألمانية يجيب ببساطة: يتقدّم التاريخ بمحرّكات القطار!

يتخذ "متحف القطارات" في مدينة نورنبرغ من تاريخ ألمانيا نموذجاً ليجسّد هذه الفكرة، إذ يمكن رسم تاريخ البلاد الحديث فقط من خلال تركيز دائرة الضوء على القطار وتطوّراته، من زمن البخار إلى زمن السرعة الفائقة، حيث يجمع المعرض قاطرات كان يمكن أن تذهب للخردة أو يُذوَّب حديدها.

نقف مثلاً أمام العربة الملكية التي كان يعتبرها لودفيغ الثاني، ملك بافاريا، التاج الذي يعبّر عنه وعنه تطلّعاته بإدخال مملكته إلى الحداثة. كما يمكن أن نتجوّل في عربات أُخرى تبدو كصورة مصغَّرة للطيف الطبقي في ألمانيا القرن التاسع عشر، فنمرّ بين قاطرات أشبه بصالونات في قصور بأرائكها الوثيرة وزخرفتها المبهرة، ثم نجد أنفسنا - ونحن في ذات القطار - في عربة سوداء كالحة بمقاعد متراصّة كان يستقلّها العمّال وهم يغادرون أريافهم لتبتلعهم المصانع.

كلّ مرة، كانت إعادة وضع القطار على سككه تعني نهضة ألمانيا

وإذا كانت قصّة ألمانيا الحديثة تبدأ بحلم وحدتها، فإنّ الأرضية التي قام عليها المشروع كانت شبكة السكك الحديدية التي أخذت تمتدّ بين مدن العالم الجرماني بما يتيح مزيداً من التبادل التجاري (والثقافي بالتأكيد) ويُدمج مصالح الممالك والإمارات المتجاورة تدريجياً، حتى إذا جاءت اللحظة البسماركية كان كلّ شيء قد تهيّأ لتوحيد الألمان في دولة.

تحضر في المتحف صورة عملاقة لإعلان توحيد ألمانيا في 1871. ليست صورة مسقطة أو مجرّد تأطير لمحتويات المتحف، فقد كان المستشار بسمارك يعتبر القطار عنوان مرحلته، سواء ببعدها العسكري فحيث يمتد القطار يمتدّ نفوذ الرايخ الثاني، أو ببعدها الثقافي؛ فالوحدة لا تعني شيئاً ما لم يغادر كلّ ألماني مربّعه الأول ويتعرّف بشكل ملموس على المجال الواسع الذي باتت تتيحه الوحدة.

تتقاطع السردية التي يقترحها المتحف مع حروب ألمانيا الخاسرة، وكانت انعكاساتها جلية على منظومة النقل وقد تمزّقت السكك وتحوّلت المحطات إلى ركام. وفي كلّ مرّة كانت إعادة وضع القطار على سككه تعني عودة النسر الألماني للتحليق.

لعلّ ما يشدّ الزائر هو تلك المقولات التي ينجح المتحف في تمريرها من خلال الترتيب الدقيق لمحتوياته، بما يُقدّم من معرفة ويثير من أسئلة. طبعاً، لم يكن ممكناً أن يتغلغل القطار في تاريخ بلد مثل ألمانيا ويعيد بناء هذا التاريخ في سرديةٍ عناصرُها العربات والقاطرات من دون أن يكون هذا البلد متفوّقاًَ في الصناعة. وإنّ زائراً عربياً سيتساءل: ما الذي يقوله تاريخ القطار في أيّ بلد من بلادنا؟ ربما يضيء لحظة في التاريخ، لكن لا يمكنه أن يفتح أفقاً كما يفعل القطار مع تاريخ ألمانيا.

لقد كان القطار في ألمانيا رهاناً للحاق بركب التطوّر الحضاري ثم بات مُنتِجاً له. إسقاط الخلاصات الألمانية من زاوية تاريخ القطار سيكشف كم بقيت محرّكات القطارات العربية معطّلة. والصورة يمكن أخذها على محمل المجاز، أو كتصوير مباشر للواقع.

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون