من عالم الاستشراق الذي وثّق الحياة في الشرق، مثلما على جانب آخر أطلقته مخيّلة فنّانين وكُتّاب ومصوِّرين وسينمائيين، إلى مدينة متحفية صغيرة ستحوي أعمالاً فنّية من العالم، جاء مساء الأحد الماضي افتتاحُ معرضين في الدوحة؛ الأوّل ليعطي نبذة عن "متحف لوسيل" المزمع إنشاؤه العام المقبل، والثاني عن "متحف مطاحن الفن" الذي سيفتح أبوابه عام 2030.
247 قطعة
"حكايات عالم يجمعنا" الذي افتتحته "متاحف قطر" بـ"غاليري الرُّواق" الكائن بساحة "متحف الفن الإسلامي"، يقدّم إطلالة على عدد كبير من الأعمال الفنّية التي سيكون مقرّها "متحف لوسيل" الذي يُقام على جزيرة المها قُبالة مدينة لوسيل الحديثة شمال العاصمة.
كانت في المعرض 247 قطعة من لوحات، ومنحوتات، وصور فوتوغرافية، ونصوص نادرة وفنون تطبيقية، جمعتها "متاحف قطر"، إضافة إلى موادّ رقمية تفاعلية تشمل أفلاماً من إنتاج "مؤسّسة الدوحة للأفلام"، ومقاطع صوتية من تأليف موسيقيين قدامى ومعاصرين.
هذه لوحات جان ليون جيروم، وأوجين ديلاكروا، وآرثر فون فيراريس، وجون فريدريك لويس، وردولف سوبودا، وشارل ثيودور فرير، مثلما هي عيّنة من المتحف المُقبل، كذلك فإنّ هؤلاء الفنّانين الأوروبيّين بعضٌ من موجة فنّية واسعة عاشت في الشرق أزماناً متفاوتة، وتركت فنوناً اكتست قيمة تاريخية سجالية، وقيماً جمالية مستلهمة من عالم ثقافتُه مختلفة، وشمسُه لا تشبه الشمس الأوروبية.
إطلالةٌ على بعض الأعمال الفنّية التي سيضمّها "متحف لوسيل"
في بهو "غاليري الرواق"، حيثُ تُباع بقسم الهدايا نماذج من أعمال فنّية، تستوقفك حقيبة كتّان كبيرة تكفي لترتاح عليها لوحة جيروم المعنونة "الشاعر ذو البشرة السوداء". لقد عُرضت هذه اللوحة لأوّل مرّة عام 1888، وباتت معروفة بسبب مكنونها الكثيف، إذ يحدّق الرجل بنظرته في المُشاهد مباشرة، بينما السجّادة الشرقية، والسيراميك التركي، والأزياء، كلّها عناصر نمطية عادة ما أضافها الفنّانون الأوروبيّون لابتكار مَشاهد غريبة ومثيرة.
من يشترِ الحقيبة ويعلّقها على كتفه يظلّ حاملاً الشاعر ونظرته الغامضة إلى الأبد، كما استطاعت صورة فوتوغرافية لشابة فلسطينية أواخر القرن التاسع عشر أن تقول ما تقوله عاطفة المُشاهِد، حتى إن أحد الكُتّاب علّق قائلاً إنها ليست صورة من حُجرة الكاميرا بل من عالم دافنشي.
تقنيات قديمة ومعاصرة
وإذ تستحضر تقنيات العرض معارض القرن التاسع عشر الفنّية التي كانت هذه الأعمال في الأصل تُشاهَد بها، وبعضها عبارة عن قطع فردية تعبّر عن لحظات تاريخية بالغة الأهمية، تأتي البقية على شكل أعمال قديمة وأُخرى معاصرة في وضع مُتجاور، كما تضفي أجواء السينما حيوية على المشهد، من مقاطع أفلام، وصور ثابتة، وأزياء ونماذج من أفلام هوليوود، بما في ذلك الفيلم الكلاسيكي "لص بغداد" (1924)، وأيضاً "كليوباترا" (1963) الذي ذُكر سابقاً، و"لورنس العرب" (1962) وأفلام "حرب النجوم" الشهيرة.
أمّا القطع الفنية التي تُجسّد الأفكار والإبداعات والتقدّم التكنولوجي عبر عالم المحيط الهندي، فتضمّ كتاب تاريخ "نورمبرغ كرونيكل" (1493)، وقطعة شطرنج من الكريستال الصخري أصلها من مصر خلال القرن العاشر إلى الحادي عشر الميلادي، وإحدى الإصدارات المطبوعة الأولى من "كتاب العجائب" لماركو بولو (1529).
يتضمّن المعرض مساحتين للبرامج التفاعلية، الأولى هي "مركز الفكر والبحث في متحف لوسيل"، والذي يعكس خُطط المتحف المستقبلي لتعزيز الأفكار الجديدة، من خلال التفاعُل بين الجماهير والفلاسفة وعلماء الاجتماع والمؤرّخين والدبلوماسيّين. أمّا المساحة التفاعُلية الثانية، فتقدّم برنامجاً متغيّراً من الأفلام القصيرة، والتي تتناول موضوعات المعرض والمتحف المستقبلي.
مطاحن الفن 2030
معرض "مطاحن الفن 2030" توزّع بين قسمين؛ أحدهما في مستودع "شركة مطاحن الدقيق القطرية"، والثاني في "بيت النجادة التراثي رقم 15"، الواقع قرب سوق واقف؛ المعلم السياحي الشهير.
وكونه يستكمل أضلاع الحي الثقافي الذي يضمّ في الأساس "متحف الفن الإسلامي" وحديقته، و"متحف قطر الوطني"، سيضمّ "متحف مطاحن الفن" مجموعة فنّية عالمية، جرى اقتناؤها على مدار الأربعين عاماً الماضية، بالإضافة إلى أعمال متعدّدة التخصّصات تتسم بتنوّع كبير، تغطّي فترة زمنية منذ عام 1850 وحتى الوقت الحاضر.
وفي مبناه الرئيسي الذي تبلغ مساحته 80000 متر مربّع (بما في ذلك 23000 متر مربع من مساحات العرض)، يقدّم "متحف مطاحن الفن" أعمالاً مميّزة من الفنون البصرية، والهندسة المعمارية والتصميم، والأفلام وديكورات الأفلام، والأزياء والمصنوعات اليدوية، والكثير غير ذلك.
سيحتوي "مطاحن الفنّ" على مجموعة اقتُنيت على مدار أربعين عاماً
ووفق بيان "متاحف قطر"، فإن "مطاحن الفن" يجمع بين ما هو موجود وما يجب إنشاؤه، أي أنّه ليس مبنياً من الصفر، وعليه جاء وصف "الترويض" للتعبير عن هذا القادم الجديد، ترويض المطحنة التي كدحت من أجل الخبز، إلى حيّز فنّي يضمّ عدداً كبيراً من الأعمال العالمية، وأفضية من حافة البحر مفروشة بالنباتات والأشجار المحلّية.
وسعياً لتبيان عملية التحوّل التي سيشهدها الموقع، وكيف ستكون "مطاحن الفن" مكاناً للإبداع المعاصر، كُلّف ستّة فنّانين بإنشاء أفلام وصور فوتوغرافية لإظهار أوجه التماثل بين مطاحن الدقيق والمتحف المستقبلي، وأولئك الفنّانون هُم: ياسمينة بن عبد الرحمن (1983، فرنسا - تعمل في باريس)، ومحمد كمال العمادي (1988، قطر - يعمل في الدوحة)، وفرانسوا إكزافييه جيبري (1978، فرنسا - يعمل في فرنسا وساحل العاج)، وعلي كاظمة (1971، تركيا - يعمل في إسطنبول وباريس)، وأمل المفتاح (1994، قطر - تعمل في الدوحة)، وشيماء التميمي (1984، اليمن/ كينيا - تعمل في قطر).
تفسير الصومعة
ثمّة 64 صومعة قمح معروفة في قطر منذ إنشائها عام 1996، لكن شركة الدقيق ستنتقل إلى منطقة الميناء الجديد. والصومعة بوصفها الحمض النووي للمشروع المُقبل، لذا ترتّب على القائمين على "متحف مطاحن الفن" إعادة تفسير الصومعة الموجودة التي تنهض من دائرة بارتفاع 35 متراً. وعلى الرغم من تجميعها في أربعة أحياء من الصوامع تبلغ أبعادها 4 × 4 أمتار، فإن الغرض الصناعي الأصلي منها كان عزل كل مساحة (أنبوب) هيكلياً، وبفعالية عن المساحة التي تليها.
ولتحويلها إلى متحف، كان عليهم خلق قنوات اتصال قادرة على تحقيق مساحات عرض أكبر بكثير، لهذا السبب جرى التفكير في إعادة تفسير الصوامع على أنها مرحلة انتقالية من دائرة إلى مربع.
بيت النجادة
أمّا القسم الثاني من معرض "مطاحن الفن 2030"، فهو بعنوان "حديقة المتحف"، وقد افتتح في "بيت النجادة التراثي" والذي رُمّمَ مؤخّراً، وهو ضمن 18 بيتاً تراثياً باتت تحت مسؤولية "متاحف قطر"، ويعود إنشاء هذه البيوت إلى منتصف القرن العشرين. يُلقي هذا العرض الضوء على إنشاء حديقة المطاحن، فاجتمع عرض لرسومات تصميم الحديقة، مع مجموعة مختارة من الكتب المرجعية من مجموعة "متاحف قطر"، وإعارات من "مكتبة قطر الوطنية" ومن "المتحف العربي للفن الحديث"، في إعادة تصوّر للحدائق الإسلامية التقليدية.
كما قُدّم عملان: لوحة فسيفساء للفنّانة حمرة عباس (1976، الكويت - تعمل في لاهور بباكستان)، وفيلم كُلّفت به أمل المفتاح، وأُنتِج بالتعاون مع "مؤسّسة الدوحة للأفلام".