يُصرُّ الفنَّان غيّرمو بيريز فيالتا Guillermo Pérez Villalta (المولود في قادش، 1948)، على العبث دائماً في الأماكن التي يعرض فيها فنَّه، و"صالة ألكالا 31" في مدريد هي آخر تلك الأماكن؛ إذ حوّل غرفها وجدرانها إلى متاهة هندسيَّة معقَّدة تبعث في الزائر شعوراً بأنَّه موجود في مكان واحد فقط: الأحلام.
من خلال مجموعة من الأعمدة والجدران المفتوح بعضُها على بعض، والتي تؤدِّي إلى مساحة مركزيَّة يترأسّها هيكل كلاسيكيّ، ينجح غيّرمو في تشييد غرفٍ داخل الغرف، مبتكراً تنسيقاتٍ مختلفة وحواراً بين ديكور الصالة، الذي صمَّمه بنفسه، والأعمال الفنيَّة المعلَّقة على الجدران، والمتشابهة جمالياً أو موضوعياً.
الإحساس المرافق لك، أنتَ، أيُّها الزائر، هو اجتياح منطقة أحلام الفنَّان أو الخالق، وحلم الخالق، هنا، ليس أفقيّاً، بل متقلّب وعشوائي. أثناء الجولة في المعرض المستمر حتى الخامس والعشرين من الشهر المقبل، تجد نفسك محاطاً بأعمالٍ قديمة وحديثة - بعضها يعود إلى السبعينيَّات، وأُخرى إلى هذا العام. ليس هذا فحسب، بل ثمَّة أثاث، جواهر، نماذج بشريَّة، متاحف، بازيليكا وآبار لا يمكن رؤيتها إلَّا من الارتفاع، وتحديداً من الطابق الثاني، هناك حيث لا مفرَّ من التحديق إلى وجوه وأشكال اصطفَّت بتناغم تامّ بطريقة ليست بعيدة عن نماذج فسيفسائيَّة أندلسيَّة.
وجوه وأشكال اصطفّت بشكل غير بعيد عن فسيفساء أندلسية
يخيّم على الصالة إصرارٌ منبعثٌ من لوحاتٍ تجعل الخيال واقعاً، أو بالأحرى لوحات ترسم الواقع بعيون الهندسة: هنا مربَّعٌ وضربة ريشة هربا لتوِّهما من ذلك الجسد الذي يبحث عن وجهه في المرآة؛ وإلى الأسفل مثلّث لا يملّ من تغيير أضلاعه بحثاً عن زاوية جديدة، وإلى جانب المثلَّث مستقيمٌ يمتدُّ بين نقطتين لكنَّه عبثاً لا يستقيم، لقد أثقل عليه الفنُّ، فانحنى وصار تارةً حيَّة وأُخرى قوساً. وفي الأعلى لوحة نُقش عليها نصٌّ رخاميٌّ يفكِّك الفنَّ ويحوِّله إلى مادَّة شجريَّة تمتدُّ فروعها على تاريخ الفنِّ كلِّه.
لكن، لماذا كلُّ هذه المتاهات والأشكال الهندسيَّة؟ قد يسأل زائرٌ بدهشة، فتجيبه لوحةٌ: إنَّها تحديداً دليلٌ وإشارةُ توجيهٍ، وصولٌ، فالحياة نفسها متاهة هندسيَّة، تتعثَّر في زاوية ما، لكنَّك سرعان ما تنهض وتذهب إلى زاوية أُخرى.
تبدو لوحات غيّرمو قادمة من تضاريس أحلامنا البعيدة والمعتمة، من أماكن في أعماقنا وأجسادنا عادةً ما نهملها، من طبقاتٍ لا واعية تتراكم فوق بعضها: سهول، تلال، أجساد، عيون، جميعها تتراكم تحت قبَّة سماويَّة، تصير اللوحة أرضاً أو جسداً، تارةً يبحث عن وجهه، وتارةً يتلاقى في هذا الجسد- الأرض، المرئي واللامرئي.
هائماً، تبحث برجاء طفل ضائع عن مخرج من تلك المتاهة، فتصادف في الممرَّات وعلى الجدران: التاريخ، العالم الكلاسيكيّ، الرياضيَّات، الجنس، المقدَّس، العمارة والأسطورة، وصولاً إلى ذلك الوجه القاسي المسمَّى "فاز". لا تخطئوا! فهو ليس وجهَ قدِّيسٍ، بل شكل هندسيّ استطاع الفنَّان أن يكيّف أضلاعه وجوانبه ليصفها بانتظام دقيق: العينان، الأذنان، الفم، الأنف والتجاعيد. كلُّ شيء هنا محسوب بتناغم هندسيٍّ تامّ. هكذا تعرف أنَّ الهدف ليس الخروج من المتاهة أو الوصول إلى نهاية، بل الضياع على طول الطريق.
في معرض "الفنّ متاهة" لا صوت يعلو على همسات اللوحات ووشوشاتها. هكذا وشوشتني لوحة: "هل سيرُك دائماً مستقيم؟"؛ همست لي أخرى: "هل تفهم دوران الدائرة حول نفسها؟"، وفيما سألتني لوحةٌ عن وجوهها، أسرَّت لي من بعيد أخرى: "تعالَ إليَّ، أنا أحلامك الضائعة، أيُّها النائم".
ليس الهدف الخروج من المتاهة أو الوصول إلى نهاية
في معرض "الفنّ متاهة"، تستمرُّ اللقاءات تحدث مع طبقات المعنى المتداخلة والمتناقضة في كلِّ لوحة: اقتباسات عن الفنِّ، أيقوناتٌ وثنيَّة ودينيَّة، إيحاءات وعناصر من الفنِّ الهابط والشعبيّ، كلُّ هذا مسبوكٌ في عالم انتقائيٍّ ومتنوّع يُعرض أمام الزائر كطريقة أخرى للتفسير والاستمتاع بما يقارب مئة لوحة.
في آخر المعرض- المتاهة، مثل بحَّارٍ ضائع يرشده ضوء منارة مصغَّرة، تتلاشى كنقطة كلاسيكيَّة في أسلوبيَّة الفنَّان وعناده المنهجيِّ على تصوُّر مكان قائم على الضوء: السائل، النبات، المدن الجداريَّة، الوجوه، الانعكاسات والأجساد، كلّها تبدو، للوهلة الأولى، عبثيَّة، لكنَّها مثقلة بالمعاني والإشارات والنوايا.
تخرج من المتاهة، فتلتقي مع نفسك. همسات اللوحات لا تزال في رأسك. لا تسألْ عن معنى لوحات غيّرمو بيريز أو من أين جاءت، فكِّرْ إلى أين تمضي!
* كاتب ومترجم مقيم في إسبانيا