ما لم أَستطِع قوله لأحدهم ذاك الصباح

18 يونيو 2021
من البوسفور (أيهان ألتون/ Getty)
+ الخط -

قد أُولَد من جديد

I

كأنَّ الشرفةَ في السرداب
وكأنَّ الوقتَ سَقَط
كأنَّ نسيمَ البوسفور يُداوي
أهلَ البوسفور فَقَطْ
كأنِّي بِغَيْرِ اللُّغة الأمِّ
أصيرُ يتيمَ المعنى؛
أتحدّث عن أشياءَ عامَّة
وأقارنُ شمسَ بلادي بشموس بلادٍ أُخرى
وكأنَّ الشمسَ لكلِّ النّاس ليست واحدةً.

II

أحاولُ... وأحاولُ
أشربُ عشرَ سجائرَ في عشر سجائر
قنينةً.. قنينتين
قد أُولَد من جديد هذه المرة
أُولَد بعيداً
عن رأس الحسين المُزيَّف
وشجرة مريم الجرداء...
ابْتَعِدْ عنِّي أيُّها الرمزُ
سوف أُلَطِّخُكَ بدموعي
وأنتَ أيُّها الحنينُ
سوف أَجْرَحُكَ بحكاياتٍ
عن جثثٍ تَجْرِفُهَا الدَّبَابَاتُ
مثل القمامة.

III

أيُّها الوطن القذرُ
أَخْرِجْنِي من رأسكِ الصفيح
وأَلْقِ بذكراي في النِّيل
وأنا أَعِدُكَ بأن أنسى طفولتي
وألّا أُشَوِّهَ اسمكَ المنحوتَ في ملامحي
عندما أحاولُ، مثلاً،
أن أُقْنِعَ بائع البازار بأنني لستُ سائحاً.


■ ■ ■


لا أحمل جراح غيري

"أحمل جراح كلّ الحروب التي هربتُ منها"
يقول فرناندو بيسوا
لماذا أشعر أنك تقصدني يا فرناندو الوغد؟
لكنني لم أهرب من الحرب، ولم أختبئ مثلكَ في الأسماء المستعارة،
ولا أحمل جراح غيري
يسَعُني جُرحي
ثم قل لي يا بيسوا
كيف خرجتَ لي بجملتِكَ هذه
على دفتر اليوميات
الذي اشتريتُه من مكتبة صغيرة
في شارع جانبيّ بإسطنبول
حتى أدوّن ذكرياتي
عن الهرب من الحرب؟


■ ■ ■


ما لم أَستطع قوله لأحدهم ذاك الصباح

I

أريدُ أن أُمسك بلحظاتِ الضعف
وأُلقي بها في الهواء..
أريدُ أن أكتب ما لم أَستطِع قوله لأحدهم ذاك الصباح،
ونحن نتحدثُ عن الجوِّ الرائعِ في مدينةٍ غريبةٍ
بحديقةٍ في منتصف ميدانٍ عامّ.
أريد أن أكتب عن خوفي
أن تهترئ بلادي
مثلما اهترأ آخرُ قميصٍ اشتراه ناظم حكمت من بلاده..
أريدُ أن أكتبَ عن أيلول
وعن خوفي من اللون الأصفر
والنهاراتِ السريعة التي تمرّ علينا
ونحن نستمعُ إلى أغانٍ شعبيةٍ
لشعبٍ آخَرَ
في مدينةٍ غريبة.

II

وُلدتُ أكثر من مرَّةٍ
لكنني في كلِّ مرَّة كنتُ أُولَدُ في أبريل
وُلدتُ بجوار النيل والبوسفور
وقلعة صلاح الدين وبرج غَلَطة
وفي كلِّ مرَّةٍ
كان يهمسُ الربيع في أذني ويقولُ:
يُمكن للزمانِ أن يكونَ هُويَّةً
ويُمكنُ أن تُصاحبَ شجرةً
في مدينةٍ غريبة.

يُمكن أن تُلقي باسمكَ في الهواء
وأنتَ تمشي في الطريق من "أيوب سلطان" حتى "بلاط"
ثم تجلس في "إدرنة قابي"
وتُسندَ ظهركَ إلى سور القسطنطينيةِ القديم
وتسألَ نفسك:
ماذا كنتَ ستفعل لو لم يعبر جيشُ السلطانِ من هذه البوابة؟

III

في "بَلاط"
لا تضيِّع وقتكَ في البحث عن اسمٍ جديد
يُمكنكَ أن تُصاحبَ شَغفكَ بالبيوت الخشبية
وأن تفكّرَ في الحكاياتِ
ربما خلف تلك الشبابيك القديمة
كانت تجلسُ امرأةٌ أرمنيةٌ
تشربُ النبيذَ، وتدوِّنُ بشجاعةٍ ليست لك
حياتَها الشخصيةَ داخل الحكاية.


■ ■ ■


هل تحبّ الفولكلور؟

كان يفكّر مثلكَ تماماً
ويتحدّث بالثقة نفسها
وحين ينام
يرى نساءً يتساقطنَ من البنايات مثل الجراد
ورجالاً يلعبون الأوراق على أرواحهم
وأطفالاً لم يسمعوا بالفاجعة بعد
ويواصلون لعبة العريس والعروس

سألتُه:
هل قرأتَ عن الفولكلور من قبل؟
فأشار بإصبعه الوسطى في الهواء، وانصرف عنّي.

كان يفكّر مثلك تماماً
ويتحدّث بالثقة نفسها
وحين يكتب الشّعر
يرى ظلّه طفلاً في الشوارع التي يحاول نسيانها،
وتطارده كالهُويَّة
يناديه:
"خذني معك
إلى حزيران خذني معك
إذا ذهبتَ إلى الجنوب
أو نضجتَ كثمرة تِينٍ في إحدى هضاب الأناضول
خذني معك
وإن ضيّعتَ أجمل الأيام
في استكشاف رائحة التوابل في البازارات
خذني معك".

كان يفكّر مثلك تماماً، ويتحدّث بالثقة نفسها
حتى رأوه يطعن ظلّه في منتصف الطريق
ويختبئ بإحدى الدبكات في ديار بكر

سألتُه:
هل تحبّ الفولكلور؟
فخلع قميصَه الملطّخ بالدم، ولوّح به في الهواء!


■ ■ ■


شواهد منسية

ليتَك شاهدتَ ديسمبرَ في أوسكدار معي يا أبي.
إننا ننتظر الشمس، ونحن نحرق الوقتَ بالشَّاي والسجائر
نرشُّ الحمام بالقمح، ونطيل النظرَ إلى قباب الجوامع
نغنّي "في الطريق إلى أوسكدار وجدتُ منديلاً"،
وأجدُ فيه رائحتكَ يا أبي..
نتسكَّعُ بين القبور القديمة
نبحث عن أسماء أجدادنا الذين أُخِذوا إلى الحرب،
ولم يعد منهم غير الأغنيات.
أتريد أن أصف لك أوسكدار يا أبي؟
تاريخٌ مهزومٌ يتمشى على الساحل
وبائعاتُ وردٍ
كنَّ عاشقات ولم يُحَالِفهنَّ الحظ
وشواهدُ منسيَّة
كُتبت بلغةٍ مغدورة.


■ ■ ■


في لغةٍ أُخرى

I

يُمكنُ وأنتَ تتعلّم كلماتٍ بسيطة في لغةٍ أُخرى
أن تفكِّرَ في هذه الكلمات من جديد:
سريرٌ، حائطٌ، بيتٌ، شارعٌ، حيٌّ، مدينةٌ.
هل تخيلتَ من قبلُ أن تفكِّر في كلمة "مدينة"
وأنتَ تحلق ذقنكَ في صباحٍ ما
بحمّامِ بيتكَ في إسطنبول
وتدندن أُغنية عبد الوهاب: "كل البلاد عندي أوطان"؟

II

المدينة: كلمة فضفاضةٌ كأحلام الغزاةِ، ومعقَّدةٌ كالنقوش الحجريَّةِ...

ضواحي المدينةِ، ووَسَطُ المدينة
الشوارع الشهيرة في المدينة، والشوارع الخلفيَّة
الأحياءُ المُحَافِظَةُ في المدينة، والحياةُ الليليَّةُ للمدينةِ
المدينةُ المقاومةُ، شعراءُ المدينةِ،
وأغاني المهاجرين من تلك المدينة إلى هذه المدينة.

III

يمكنكَ أن تكتبَ في دفتر يومياتِكَ قبل أن تنام:
"رأيتُ مسيرةً يمشي فيها الثوار من مدينةٍ إلى مدينة"،
وأن تكتبَ عن المرأةِ التي أحببتَها في مدينةٍ جنوبيةٍ صغيرة
وعن مدينةٍ عملاقةٍ أغرتكَ
ثم ابْتَلَعَتْكَ.

وسيكون بإمكانك بعد أن تتقن لغةً أُخرى، في مدينةٍ ما،
أن تقولَ بسرعةٍ سيحسدك الآخرون عليها:
"بهذه البساطة ضيَّعتُ حياتي".


* شاعر ومترجم مصري، من مواليد القاهرة عام 1984 ومقيم في إسطنبول. ترجم نصوصاً لعشرات الشعراء الأتراك، وصدرت له عدة كتب مترجمة عن التركية بالاشتراك مع ملاك دينيز أوزدمير، من بينها: "ثلاث سنوات ونصف" لأورهان كمال (المتوسط، 2020)، و"غجر إسطنبول" لعثمان جمال قايغلي (مرايا، 2020)، و"أيام السلطان عبد الحميد الأخيرة" لناهد سِرّي أوريك (الأهلية، 2021).

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون