لطالما جرى إبعاد الفلسفات التي نشأت وجرى تداولها في شرق وجنوب آسيا من خريطة وتاريخ "الفلسفة الحقيقية"، التي يُخبرنا أغلب مؤرّخي الفلسفة بأنها محصورةٌ بحوض البحر المتوسّط وأوروبا، والتي يُعاد أصلُها إلى اليونان القديمة، وتمرّ سيرورتها بالبلاد العربية والإسلامية قبل أن تنتقل إلى أوروبا الغربية.
وللدفاع عن هذا الرأي، يُحيلنا مؤرّخو الفلسفة، غالباً، إلى أن ما كُتب في الحضارة الهندية، وكذلك في الحضارات الصينية واليابانية القديمة، هو أقرب إلى النصوص الروحانية والدينية منه إلى نصوصٍ معرفية تبحث في شؤون الوجود والكينونة والأخلاق، كما هو الحال في فلسفات قديمة أُخرى مثل اليونانية والعربية.
عن سلسلة "فوليو" التابعة لمنشورات "غاليمار" بباريس، يصدر هذه الأيام كتاب "ما الفلسفة الهندية؟"، للباحثين فانسان إلتشينغر وإيزابيل راتييه، اللذين يسعيان إلى تفنيد هذه الرؤية التي تختزل فلسفات الهند بالمقولات الدينية والروحانية.
يتابع المؤلّفان، أوّل الأمر، تاريخ هذه النظرة الأوروبية، ليجدا أنها مبنيّة على ما يشبه الحكم المسبق، حيث صنّفها مؤرّخو الفلسفة الغربيون، في القرن الثامن عشر، ضمن فضاء الكتابات الدينية والروحانية في حين لم يكن لديهم اطّلاع كافٍ لا على اللغة السنكسريتية ولا على ما كُتب فيها، وهي كتاباتٌ ستبدأ بالظهور في القارة الأوروبية بدءاً من نهايات القرن الثامن عشر، بفضل "الجمعية الآسيوية في كلكوتا".
وللخروج من الطريقة التقليدية في التعامُل مع هذه الكتابات، أي التي تقسّمها إلى مدارس ومؤلّفات تُصَنَّف حسب الأعراق والأجيال، فقد اختار المؤلّفان استعراض الفلسفة الهندية بشكل موضوعاتي، بحيث تتوقّف مقالات الكتاب لدى النحو الذي عالج من خلاله فلاسفة ومفكّرون هنود مفاهيم مثل الذات، والكينونة، والهوية، وغيرها من مفاهيم الفلسفة الأساسية، وهو ما يُخرج القارئ من موقع الحُكم المسبق ويضعه أمام تحليلاتٍ ينظر إليها بعين المساواة مع الكتابات الفلسفية الموضوعة في نواحٍ أُخرى من العالم.
ويشمل الكتاب، بشكل أساسي، قراءات وتحليلات في الكتابات السنكسريتية التي وُضعت خلال الألف الأول بعد الميلاد، وهي الفترة التي شهد فيها الفكر الهندي تكويناً جديداً بالتوازي مع وصول الإسلام إلى البلد، حيث شكّلت الثقافة العربية ـ الإسلامية صورةَ "الآخَر" الذي بنى هؤلاء المثقّفون كتاباتهم في حوارٍ معه ورغبة في التمايز عنه، كما يقول المؤلّفان.
ويشير إلتشينغر وراتييه إلى أن سيرورة الفلسفة الهندية كانت مختلفة إلى حدّ بعيد عن الإرث اليوناني ـ العربي ـ الروماني، بل إنها "نُفيت" من "التاريخ الرسمي" للفلسفة لهذا السبب بالتحديد: أي لأنها وُلدت ونشأت لقرون دون أي احتكاك بإرث أفلاطون وأرسطو وغيرهما من رموز الفلسفة اليونانية، ودون اطّلاع ــ إلّا بشكل متأخّر ــ على هذا الإرث الإغريقي وعلى الفلسفات الداخلة في حوار معها.
وهُما يذكّران، في هذا السياق، بملاحظة لغوية ذات معنى تاريخي. فكلمة "درشانا" في السنسكريتية، التي تُترجَم اليوم بوصفها مقابلاً للفلسفة أو "حُبّ الحكمة" اليونانية، لا علاقة لها أبداً بمعنى هذه الكلمة اليونانية. ذلك أن "درشانا" مأخوذة من الجذر الثلاثي "درش"، والذي يحيل إلى فعل النظر والرؤية، في حين أخذت الكلمة، منذ القرن الثامن للميلاد، معنى الدراسة التي تُعنى بعرض وشرح وجهات نظر العُلماء والمفكّرين حول قضايا معيّنة.
ومن جانب آخر، يرفض المؤلّفان ربط التفكير الهندي القديم بالنظريات ــ وأبرزها نظرية المفكّر الفرنسي بيير آدو ــ التي ترى إلى الفلسفات القديمة بوصفها طريقة عيش، أي باعتبارها إشكالاً وجودياً، وليست بالضرورة خطاباً معرفياً. على العكس، يقارب كتابهما هذا الفكر الهندي بوصفه خطاباً، أو شبكة من الخطابات، والتي يسعى الكتاب إلى مقاربتها وتحليلها دون اختزالها ببُعد أخلاقوي أو بحاجة روحانية أو وجودية.