مانيتون السمنودي.. مؤرّخ كتبَ قصّة الحضارة المصرية فاتُّهم بمعاداة السامية

07 يناير 2023
جدارية للقارب المقدّس في معبد سيتي الأوّل، الذي يعود إلى 1306 ق. ب. (Getty)
+ الخط -

على الرغم من أنّ الإغريق القدماء تعرّفوا على حضارة مصر القديمة منذ عهد هيرودوت (484 - 425 ق.م)، إلا أنها كانت معرفة سطحية تشوبُها الكثير من الأوهام. والسبب أن الأخبار التي نقلها "أبو التاريخ الإغريقي" كانت شفهية بلسان العامّة، وربما عن بعض الكهنة. إلّا أن معرفتهم، أي الإغريق، بتاريخ مصر ومعتقداتها القديمة لم تكتمل إلّا على يد مؤرّخ مصري يُدعى مانيتون السمنودي؛ عاش في زمن الإسكندر، وعاصر ثلاثة ملوك من الأسرة البطلمية.

الشائع أن مانيتون كتب تاريخه "إيجيبتياكا"، أي التاريخ المصري، بالإغريقية القديمة بناءً على طلب الملك بطليموس الأول سوتير (323 - 283 ق.م)، بحسب المؤرّخ اليوناني بلوتارخ (46 - 120 م)، كنوع من ربط حُكمه بالسلالات التي حكمت مصر منذ الأُسَر القديمة. ويُعَدُّ سِجلُّ مانيتون لملوك مصر الأكملَ، والمرجع المعتمَد لعُلماء المصريات المُعاصرين، رغم المحاولات الحثيثة من بعض الأكاديميين الغربيّين، من أتباع "المدرسة التوراتية"، للتشكيك بحقيقة وجوده؛ والسبب في ظنّنا هو إشكاليات التاريخ المتخيّل لليهود القدماء، وعدم وجود مصادر عن تلك القصص خارج النص الديني.


مقتبسات

وُلد مانيتون، على الأرجح، في مدينة سمنود الواقعة حالياً في محافظة الغربية، وسط الدلتا المصرية، حين تحوّلت هذه المدينة إلى عاصمة للمصريين أثناء الاحتلال الفارسي، إذ واصلوا فيها تقاليدهم الملَكية والدينية بمعزلٍ عن احتلال البلاد. ولذلك فإن مانيتون قد استحوذ بحُكم موقعه الكهنوتي على وثائق نادرة استفاد منها في وضع تاريخه العام، بالإضافة إلى عدد آخر من الكتب المنسوبة إليه، مثل: "ردّاً على هيرودوت"، و"العصور القديمة والدين"، و"في الأعياد"، وغيرها من مؤلّفات فُقدت على الأرجح في أحد حرائق "مكتبة الإسكندرية"، إما في عام 48 ق.م، عندما وصلتها نيران الأسطول المحترف في عهد يوليوس قيصر، أو في عام 391 م، عندما أمر الإمبراطور البيزنطي ثيودوسيوس الأوّل بتدميرها. ولذلك فكل ما وصلنا من كتاب مانيتون هو مقتبسات نجدها في كتب عددٍ من مؤرّخي العصرَين الروماني والبيزنطي، والسبب الأساس لاقتباسها هو إثبات تاريخية حوادث العَهد القديم.

بسبب فقد الـ"ايجيبتياكا" من الصعب الحكم على المنهجية التي اتّبعها مانيتون في تأليف تاريخه، ولكن نجاة الكثير من قوائم الملوك حتى عصرنا الحاضر يُمكن أن تشير إلى اعتماده على وثائق حيّة. يضاف إلى ذلك ما نقله جوزيفوس فلافيوس عنه من أنه اعتمد على مصادر شفهية، وأساطير متداولة لدى كهنة المعابد في سرد روايته، وهي مصادر مألوفة في تلك الأزمنة. أما تضلُّعه باللغة والآداب الإغريقية، فهو أمر لا شكّ فيه، إذ يبدو أنه مطّلع اطّلاعاً واسعاً على تاريخ هيررودوت، أما مزامنته للتاريخ اليوناني القديم مع التاريخ المصري، فتدلُّ على تضلُّعه بالملاحم الإغريقية، كـ"الإلياذة"، و"الأوديسة"، وحتى مسرحيات أسخيلوس. 


الردّ على هيرودوت

الهدف الأساس من تاريخ مانيتون هو جدولة السلالات المصرية الحاكمة في قائمة موحّدة، وإيصالها إلى حكم البطالمة؛ بوصفهم ملوكاً شرعيين، تبنَّوا طقوس التتويج والتطهير المصرية، وشجّعوا على توأمة بين الآلهة المصرية والإغريقية. ولكن؛ لا يخفى أن أحد أهداف الكتاب هو الردّ على هيرودوت، ولذلك ينسب له كتاب بهذا العنوان، أي "رداً على هيرودوت"؛ حيث يعتقد على نطاق واسع انه اختصار لكتابه في التاريخ العام.

ويبدو أن مانيتون كان مستاءً جدّاً من بعض الفقرات التي وردت في تاريخ هيرودوت، وكان يشعر بأن إحدى واجباته الردّ عليها. وهذه الفقرات فُقدت للأسف الشديد، مع ما فُقد من نصوص الكتاب، ويبدو أنها لم تكن تهمُّ المؤرّخين الذين نقلوا عن كتابه فقراتٍ لدعم وجهات نظرهم. 

شاهدة قبر - القسم الثقافي
شاهدة تعود للفترة الإغريقية بمصر، في المتحف المصري بالقاهرة (Getty)

من أهم المآخذ على الصورة التي كوّنها هيرودوت عن الحضارة المصرية، هي مزاعمه حول استخدام الملوك المصريين نظام "السخرة" في بناء الأهرامات، حيث قال: "لم يترك الملك خوفو شرّاً إلّا واقترفه. بدأ بإغلاق جميع المعابد، وحرَم المصريين من تقديم القرابين، وأمرهم بالعمل لحسابه. كانوا يعملون في مجموعات تتناوب كلّ ثلاثة أشهر، تتألّف كلّ مجموعة من مئة ألف فرد. استغرق العمل في بناء الهرم نفسه 20 عاماً، ولشدّة حاجة خوفو للمال انحدر إلى أشدّ الرذائل انحطاطاً، وأمر ابنته بممارسة الدعارة لتحصّل من عشّاقها على قدر معيّن من المال. لم يخبرني الكهنة بمقدار هذه الأموال. وعلى الرغم من أنها نفذّت أوامر والدها، أرادت أن تتركَ أثراً لها، فطلبت مِن كلّ مَن زارها أن يُهدي إليها حجَراً، ومِن هذه الحجارة شُيّد الهرم الذي يقع وسط الأهرام الثلاثة القائمة أمام الهرم الأكبر".

هذه الصورة تطوّرت على يد محرّري "الكتاب المقدس - العهد القديم"، عبر الادّعاء بأن العبيد الذين استخدمهم فراعنة مصر في بناء الأهرامات هم اليهود، حتى باتت صورة المصري الذي يلهب ظهر العبد اليهودي، وهو ينقل حجارة الأهرامات، واحدة من المسلّمات في العقل الغربي. ولكنّ هذه الصورة باتتِ اليوم موضع انتقادٍ كبير من جانب الأوساط الأكاديمية التي درست البرديّات والكتابات المصرية القديمة المحفوظة في المقابر والمعابد والقصور، حيث ثبت أن بناة الأهرامات كانوا من الفلّاحين والجنود المصريين، وأن ما قاموا به كان نوعاً من العِبادة، كونهم كانوا يعملون على جعل ذِكْر الملك خالداً. وهو أمرٌ يشبه تطوّع المؤمنين في بناء الكنائس والمساجد في العصور الحديثة. 


كتاب التاريخ

مما وصلنا من معلومات عن تاريخ مانيتون؛ يمكن القول إن الجزء الأول منه يبدأ من العصور الموغلة في القِدم، من عصر الآلهة المصرية القديمة، ولكنْ مقرونة بأسمائها اليونانية، واللافت في هذه المرحلة غياب قصة الطوفان التي نجدها عند بيروسوس! وفي هذا الكتاب نقرأ سِجلّاً كاملاً للسلالات التي حكمت مصر من السلالة الأُولى، وحتى السلالة الحادية عشرة. وهو بهذا المعنى يشكّل تاريخ المملكة القديمة، وشيئاً من المملكة المتوسّطة. 

ويغطّي الجزء الثاني تاريخ الأُسر من الثانية عشرة وحتى التاسعة عشرة، بما فيها أخبار غزو الهكسوس لمصر. وهذا الجزء محفوظ بشكل جيد بفضل المؤرّخ اليهودي جوزيفوس فلافيوس حيث نقل منه حرفياً ما يلي: "لا أعرف لماذا نزلت بنا في عهد توتيمايوس (تحوتمس) صاعقةٌ من غضب الإله، فقد تجرَّأ قوم من أصلٍ وضيعٍ من الشرق على غزو بلادنا، وقد كان مجيئهم أمراً مفاجئاً، وقد تسلَّطوا على البلاد بمجرّد القوة في غير صعوبة ما، ومن دون نشوب واقعة حربية، وبعد أن تغلَّبوا على الرؤساء أحرقوا المدن بوحشية، وأزالوا معابد الآلهة من أساسها، وساروا في معاملة الأهلين بكلّ قسوة، فقتلوا بعضَ القوم، وسَبَوا نساءَ وأطفال أُناس آخَرين، وفي نهاية الأمر نصَّبوا واحداً منهم اسمه سالاتيس ملكاً، فاتخذوا مدينة منف مقرّاً له، وضَرب الضرائب على الوجه القِبلي والوجه البحري، وترك له حاميات في الأماكن التي كانت أعظم صلاحيةً للدفاع، وقد أمَّنَ جناحه الأيمن بوجه خاص؛ لأنه كان يتنبَّأ بما عساه أن يحدُث من اغتصاب الآشوريين، بمهاجمته عندما تزداد قوّتهم في المستقبل، ولما كشف في مقاطعة سترويت عن مدينة حسَنة الموقع مُقامة على الجهة الشرقية من فرع "بوبسطة"، عَمِل على بنائها من جديد، وحصَّنَ جدرانها، ووضع فيها حامية، يبلغ عددُها نحواً من 240000 رجل، مُسلحين لحماية حدوده، وكان قد اعتاد زيارة هذا المكان كلّ صيف لتوزيع الجِرايات ودفع أُجور الجنود من جهة، وكذلك ليُلقِي عليهم دروساً مهمة في فنون الحركات الحربية، ولأجل أن يُلقِي الخوفَ في قلوب الأجانب من جهة أُخرى، ثم توفّي بعد أن حكم البلاد تسع عشرة سنة". 


إخراج الهكسوس

وبعد أن يعدّد أسماء ستة ملوك منهم وفترات حكمهم يقول: "كان هؤلاء الملوك الستة الذين يعتبرون حكّامهم الأُوَل، يطمعون باستمرار في مَحْوِ الشعب المصري، وكان شعب هؤلاء الغُزاة يُسمَّون هكسوس، ومعنى الاسم "ملك الرعاة"؛ وذلك لأن كلمة "هك" معناها في اللغة المقدّسة ملك، أما كلمة سوس فمعناها في اللهجة الدارجة راعي أو رُعاة، ومن ثَمَّ كانت الكلمة المُركّبة هكسوس، ويقول البعض إن هؤلاء القوم عرب". 

الصورة
الهكسوس - القسم الثقافي
نقشٌ يُظهر الهكسوس بأردية تختلف عن المصريين (ويكيبيديا)

بعد ذلك يتحدّث عن ثورة المصريين على الهكسوس، وطَرْدِهم إلى سورية في تفاصيل من الصعب الحُكم عليها، إن كانت من تعقيبات جوزيفوس أم من نص مانيتون، ولكن جوزيفوس يقول إن هؤلاء القوم هم اليهود المذكورون في "الكتاب المُقدّس". 

يستمرُّ الجزء الثالث من الكِتاب مع الأُسرة العشرين، ويُختتم بالأسرة الثانية والثلاثين. وتتضمّن الأُسرة السابعة والعشرون فترة الاحتلال الفارسي الأخميني، ويذكُر في هذه الفترة ثلاثَ سلالات محلّية أُخرى، متداخلة مع الحُكم الفارسي. أما الأسرة الحادية والثلاثون فتتكوّن من ثلاثة حُكّام فُرس، بينما خُصّصت الأسرة الثانية والثلاثون للبطالمة الإغريق.


دراسات معمّقة

خضعت قائمة مانيتون للأسرات الملكية، وما زالت تخضع لدراسات معمّقة، وقد تبين وجود تشابه كبير بين قائمته والقائمة المسماة "بُردية تورينو"، التي تتضمّن حوليات الدولة القديمة (حوالي 2500 - 2200 ق.م)، ومن الدولة الحديثة هناك قائمة الكرنك التي تمّ وضعُها بأمر من تحوتمس الثالث، وقائمة سقارة للكاهن تينري. ولكن مصدر سجلّات الدولة القديمة الأُخرى غير معروفة، خصوصاً وأنها تختلف كثيراً عمّا يردُ في حجَر باليرمو، وهو الجزء الأكبر من سبعة أجزاء متبقّية من لوحة تذكارية كبيرة تُعرف باسم "الحوليات الملكية للدولة القديمة"، والتي تحتوي على قائمة ملوك مصر من عصر الأسرة الأولى إلى بداية عصر الأسرة الخامسة، وتسجّل أحداثاً هامة في كلّ سنة من سِني حكمهم. 

وفي العموم تبدو الأصول الدقيقة لقائمة مانيتون الملَكية شبه مجهولة، ولكن ما يميّزها أنها شمالية بالتأكيد، بينما غابت عنها الكثير من التفاصيل المتعلّقة بملوك الوجه القِبلي، وهذا أمر يعدُّ قرينة مهمّة على أن مانيتون استمدّ مصادره الأولية من مكتبة معبد لمدينة تقع في منطقة دلتا النيل، التي لم يكن لملوك مصر الوسطى والعليا أي تأثير عليها، ولذلك لا نجد أسماءهم في قائمة مانيتون.


تشكيك

وعلى الرغم من أن تاريخية شخصية مانيتون غير مشكوك فيها من جانب المؤرّخين القدماء الذين اقتبسوا عنه، إلّا أن بعض الدراسات الأكاديمية المعاصرة بدأت تطرح فرضيات حول حقيقة وجود مؤرّخ وكاهن مصري يدعى مانيتون، وأن السجلّات الملَكية المنسوبة له هي وثائق مترجمة موجودة في أرشيفات المعابد المصرية، خصوصاً أن البردية المنسوبة له في أرشيف "بُرديات هيبة" (Hibeh Papyri)، ترجع إلى عهد بطليموس الثالث (246 - 222 ق.م)، وهو عهد متأخّر عن التواريخ المفترَضة لكتابة الـ"ايجبيتياكا". وإن كان هو نفسه؛ فهذا يعني أنه كان متقدّماً جداً في السنّ. يضاف إلى ذلك أن بردية مانيتون في ذلك الأرشيف تتعلّق بأحداث وشؤون تخصُّ الوجه القبلي من مصر، أي الصعيد، وليس الوجه البحري أي الدلتا. يضاف إلى ذلك العثور على فقرات مُشابهة لتاريخ مانيتون، لدى المؤرّخ اليهودي ليسيماخوس السكندري، شقيق فيلون السكندري (20 ق.م - 50 م)، إذيرى أصحاب وجهة النظر المشكّكة في وجود مانيتون أن ليسيماخوس هو مصدر جوزيفوس، وليس مانيتون مباشرة. 

وللردّ على هذا التشكيك، يحقُّ للمرء أن يتساءل: ولم لا يكون ليسيماخوس قد اقتبس كتاب مانيتون؟ وماذا عن اقتباسات المؤرّخين المسيحيين يوليوس أفريكانوس، ويوسابيوس القيصري، وجورج سينسيلوس، وهي اقتباسات لا تتعلّق بما اقتبسه جوزيفوس؟ وهل ثمّة أدلّة على وجود هيرودوت مثلاً غير كتابه في التاريخ؟ إذن؛ لو مضينا قُدماً في التشكيك بالمؤلّفين القدماء، بسبب عدم وجود مصادر أخرى غير كتبهم، لشككنا بوجود الغالبية الساحقة منهم.


الاتهام بمعاداة السامية

من القضايا العجيبة المتعلّقة بدراسة الـ"إيجبيتياكا"؛ خروج أتباع "المدرسة التوراتية" في التاريخ بنظرية تزعم أن مانيتون هو المثال المبكّر لمعاداة السامية، معتمدين على أوهام جوزيفوس فلافيوس ومزاعمه بأن اليهود هم الهكسوس، وأن حدث طرد الهكسوس من مصر الذي يفصّل مانيتون في وصفه، ما هو إلا حدث الخروج التوراتي من مصر. ورغم أن عِلم المصريات أثبتَ أن الهكسوس شعبٌ لا علاقة له باليهود، وأن وجوده وخروجه من مصر سابق لحدث الخروج التوراتي بقرون، إلا أن أتباع هذه المدرسة واصلوا دراساتهم، معتبرين الصفات السلبية التي أطلَقها مانيتون على الهكسوس تخصُّ اليهود، علماً أن مانيتون يقول إن ثمة من يقول إن الهكسوس كانوا من العرب، وهي إشارة قد تدلّ على أن المقصود هم قبائل العمورو البدوية، تماماً كما أشار لهم المؤرّخ البابلي بيروسوس.

بعيداً عمّا يُثار حول مانيتون من أتباع "المدرسة التوراتية" في التاريخ والآثار من غبار معرفي، يبقى مانيتون هو صاحب التاريخ الأقدم والأوثق حول مصر في كلّ العصور، وهو الذي قدّم الحضارة المصرية على حقيقتها لقرّاء الإغريقية القديمة، حتى أن تقسيمه لسلاسل الملوك هو التقسيم المُعتمَد حتى وقتنا الراهن، والكثير من أسماء ملوك مصر القديمة المعروفة اليوم، هي بحسب الصياغة التي اقترحها، ولا شكّ في أن جهودَه التوفيقية بين الحضارتين المصرية والإغريقية هي التي مهّدت لظهور الحضارة الهلنستية. تلك الحضارة الشرقية المكتوبة باليونانية. 


* كاتب وباحث سوري فلسطيني

المساهمون