يغادرنا بعض الشعراء إلى الأبد، فلا نحاول التشبث بهم ولو تخيلاً، ولكن هناك شعراء يغيبون في رحلتهم تلك، فلا لانتذكرهم فقط، بل نصر على التمسك بهم والبحث عنهم في الأماكن التي خلت منهم؛ في الشارع والمدينة والقصيدة، ونضيف إلى وجودهم وجوداً. ربما لم ننتبه لهم خلال حياتهم، وربما شغلتنا عنهم وجوه أخرى، ومع ذلك نعود إليهم ما أن يصلنا خبر رحيلهم، مبكرين أو متأخرين.
هكذا وجدت نفسي أمام خبر رحيل الشاعر الهندي مانغاليش دبرال (1948 - 2020) أسعى إلى تجميع ما أمكن من ذاكرته التي أودعنا إياها، شعراً ونقداً ومواقف سياسية واجتماعية على امتداد حياته الإبداعية، للإبقاء عليه ماثلا وإضافته كتجربة من تجارب حياة أمة عظيمة مثل الهند. لست مأخوذاً بما كتب عنه، وما سيكتب، بل بما وجدت بين يدي من مقالات له ومجموعة شعرية مترجمة إلى الانكليزية، وبعض مما ترجم من قصائده إلى اللغة العربية، أي كتابه الفني الذي هو، باستعارة من الناقد البريطاني جون روسكن، الكتاب الذي لا يكذب، الكتاب الجدير بالثقة حين تكتب سيرة حياة أمة، وأضيف، أو حين تكتب سيرة حياة إنسان فنان مثل هذا.
أول ما يلفت النظر في هذه السيرة سطوره التالية:
" هربت من الجبال مثل حجر أو حصاة، وتوقفت في المدن.. أينما وجدتُ مستقراً كنت أستريح فيه. وشعرتُ في فترة ما أنني أخفقتُ في الانتماء إلى أي مكان. لم أتصالح يوماً مع مدينة كبيرة مثل دلهي، ولم أتمكن من الحفاظ على هوية مسقط رأسي".
المواجهة مع "الحقائق الغربية" هي موضوع متكرّر في كتاباته الشعرية وفي إبداعات جيله
إلا أن هذه لم تكن سوى البداية، بداية المواجهات مع "الحقائق الغريبة"، وهي موضوعات ستتكرر في كتاباته الشعرية وفي إبداعات جيله. جيل القلق والتوتر الفكري وخيبة الأمل بالحلم الكبير لعصر نهرو، والتعايش الغريب بين الريف والمدينة. وتلفت النظر هنا عنايته بالإحالة إلى شعراء هنود تعلم منهم، وفي ضوء تجاربهم وعى وأبصر ما حوله. فقصيدة الشاعر مكتيبود "في الظلام" أصبحت، بتصويرها للكابوس الاجتماعي والسياسي والثقافي في مرحلة ما بعد الاستقلال "نصاً مجازياً وعلامة فارقة في عصرنا" كما يقول. وهذا الشاعر، مع آخرين عرفه على غوامض الشعر وأبعاده الداخلية، كما تعلم كيفية مراقبة وتشريح المفارقات البشرية التي تعج بها ديمقراطية الهند في الريف والمدينة. ويأتي بعد ذلك رأيه في ضرورة اهتمام المرء، سواء ككاتب أو كمواطن أو كإنسان بالسياسة.. ذلك لأننا "لا يمكننا، نظراً للوضع السياسي الحرج الذي نعيشه، أن نتجاهل مسار الأحداث الاجتماعي والسياسي والمصير البشري".
على أن أكثر مواقفه الجميلة التي قل نظيرها لدى شعراء آخرين، هو تركيزه على الذاكرة، والخيال الذي لا يكون الشعر من دونه، والطفولة التي يعتقد، على خطى السينمائي البنغالي ريتويك جاناك أننا لابد أن نبقي قطعة منها في جيوبنا لنحافظ على إنسانيتنا في ما تبقى لنا من حياة. أما بالنسبة للشعر ذاته، وهو ما يمكن أن يكون الخاتمة الرائعة لحياة ستظل تتردد أصداؤها، فهو يرى فيه وسيلة "خلاص"، أو وسيلة "تحرر" بتعبيرنا. جاء تلخيصٌ لهذا الرأي في مقالة له يستحق أن نختم به هذه الإطلالة:
"أتساءل أحياناً عن دور الشعر في حياة المجتمع؛ هل ينقذ الشعر أي شيء كان؟ وما فائدته للبشرية؟.. قال ماياكوفسكي في إشارة إلى الحاجة إلى الشعر "إن تفتح الزهور والتماع النجوم يعنيان ببساطة أن هناك من يحتاج إليهما. قد لا يكون تأثير الشعر على الإنسان مرئياً أو ملموساً بشكل مباشر، ولكن بعض الأحداث غيرت رأيي تماماً".
تعلم كيفية مراقبة وتشريح المفارقات البشرية التي تعج بها ديمقراطية الهند
وكانت أكثر الأحداث التي ذكرها دلالة، أن شابة ذات بشرة داكنة من منطقة القبائل عزمت على الانتحار، ولكنها تراجعت بعد قراءة إحدى قصائده كما يقول. هذه الفكرة، فكرة أن الشعر وسيلة خلاص، دفعته إلى القول عنها:
"أنها واحدة من أكبر مشاغل الشعر المعاصر.. وتؤكد هذه الأحداث، على صغرها، على إيمان الإنسان بالدور الصامت الذي يؤديه الشعر في حياة البشر في أوقات الحزن ولحظات الإحباط والظلم". أو بتعبير آخر، على دور الشعر في تحرير الإنسان، ودور الفن إذا أردنا أن نتخطى بأنظارنا الأسوار الخاصة بهذا الفن أو ذاك، ونتطلع إلى حقول الفن الجامعة.
* شاعر وروائي وناقد فلسطيني