مادس غيلبيرت.. الطبّ في مواجهة الإبادة

15 يناير 2024
مادس غيلبيرت في "مستشفى الشفاء" بغزّة يُعالج طفلاً أُصيب خلال عدوان عام 2009 (Getty)
+ الخط -

"غزّة الآن: كارثة طبّية هائلة وبطولة فلسطينية"، عنوان الندوة التي قدّمها الباحث النرويجي مادس غيلبيرت، أستاذ طبّ الطوارئ في "جامعة آرتيك" النرويجية، بـ"مركز دراسات النزاع والعمل الإنساني" في الدوحة، مساء الخميس الماضي، وبُثّت عبر حسابات المركز على وسائل التواصل الاجتماعي. بدأت المحاضرة بتوطئة عامّة من الباحث والطبيب خليل عثمان، تناول فيها حال القطاع الطبّي في ظلّ الإبادة الصهيونية المستمرّة منذ ما يزيد على ثلاثة أشهر.

انطلق غيلبيرت من أنّ ما يحدث في غزّة اليوم من مجازر هو هجوم على الإنسانية، منبّهاً في الوقت نفسه، إلى محاولات الولايات المتّحدة التأثير على قضاة "محكمة العدل الدولية"، التي أرجع انعقادها إلى أهمّية التضامن الدولي، معتبرًا أنّه ليس صُدفةً أن تتولّى جنوب أفريقيا مهمّة المرافعة ضدّ الاحتلال، وهي وريثة تجربة نيلسون مانديلا الذي قال إنّ حرّية جنوب أفريقيا لا تكتمل من دون حصول الشعب الفلسطيني على حرّيته.

عرض المُحاضر صوراً لمحاولات سابقة من أجل كسر الحصار عن غزّة، مؤكّداً أنّ المأساة اليوم لا تنفصل عن تاريخ الحصار، وأنّ ما نحتاجه في هذا الوقت الراهن هو المزيد من الحشد والتضامن والأبحاث للتعريف بالقضية الفلسطينية ككلّ. كما لفت إلى أنّه، ورغم وحشية المشهد الإبادي، إلّا أنّ الأمل والمقاومة ما زالا موجودَين، منتقداً الصورة التي تركّز عليها بعض منظّمات الإغاثة التي تُظهر الشعب الفلسطيني كشعب يُعاني أبداً. كما عرض لفيديو كان قد صوّره، سابقاً، من داخل القطاع وهو يتّجه إلى "مستشفى الشفاء"، مُعلّقاً، بالموازاة، على الواقع الطبّي في ظلّ الحصار، والذي زاده العدوان كارثية.

6 آلاف جريح في حاجة مُلحّة لمغادرة غزّة لإجراء العمليات

ما هو مستقبل الأطفال في غزّة؟ تساءل غيلبيرت، موضّحاً أنّ الأطفال الفلسطينيّين يعيشون تسع سنوات أقلّ من الإسرائيليّين بسبب الحصار، مشيراً أيضاً إلى نسبة وفيات السيّدات اللواتي يمُتن في الفترة الممتدّة بين لحظة الإنجاب والأسبوع الثاني من الولادة، والتي تصل إلى تسعة في المائة. وبالعودة إلى راهن المجزرة، أشار صاحب "عين على غزّة" (2009)، أنّ عدد الشهداء في غزّة تجاوز ثلاثين ألفاً، من بينهم 70 في المائة أطفال ونساء، و370 من الطواقم الطبيّة، و45 من الدفاع المدني، و112 صحافيّاً. ويعلّق: "مع ذلك لم نسمع أيّ صوت احتجاج من العالَم الغربي الرَّسمي".

وذكر غيلبيرت أنّه كان في القاهرة قبل عشرة أسابيع، وحاول أن يدخل إلى القطاع، لكنّه لم يتمكّن من ذلك، قبل أن ينتقل للحديث عن فتى اسمُه يامن، قُتل والداه وأخوه، في كانون الأول/ديسمبر الماضي، وأربعة من أفراد عائلته أُصيبوا إصابات بالغة، وستّة بإصابات طفيفة. أمّا يامن فقد تضرّر بفعل عصف الانفجار، فاهتزّت رئتاه، ما جعله غير قادر على امتصاص الأوكسجين، لذا وُضع في قسم العناية المركَّزة في "مستشفى الأقصى"، وقد تلوّثت جروحه وتقيّحت، والمضادّات الحيوية التي تُستخدم في مثل هذه الحالات لم تعُد موجودة.

يقول المُحاضر: "لم نصل إلى اليوم الأوّل من العام الجديد، حتى تلقّيت رسالة من أحد الأطباء المُشرفين على حالة الفتى تُفيدُني بأنه رحل متأثراً بجروحه. هذا الفتى نموذج للأطفال الغزيّين الذين لم يعرفوا في حياتهم سوى الحصار، وهؤلاء نظام المناعة في أجسادهم ضعيف جدّاً".

وعرَض الطبيب لتسجيلات وردته من أطبّاء غزيّين تُبيّن المستوى الذي وصلت إليه أحوالهم، لا في المستشفيات وحسب، بل في تدبّر وسائل العيش اليوميّة، حيث المخيّمات ملأت جنوب القطاع، والوقود شبه معدوم، وتدمير 360 ألف وحدة سكنية، وتدمير 30 مستشفى من أصل 36، و150 مركزاً صحياً، و121 سيارة إسعاف، في حين أن الحصار يمكن أن يشمل أي مادّة يُنظر لها بأنها "ذات استخدام مزدوج"، وبالتالي حتى عُبوات الماء ستصبح في هذه الحالة "مشاريع قنابل مولوتوف"، أي ممنوعة. 

ونبّه غيلبيرت إلى أنه في حلول السابع من شباط/فبراير، سيُفضي العدوان إلى حال من نقص الموادّ الغذائية قد تسبّب الموت جوعاً، وهذه محاولة إبادية موصوفة من "إسرائيل"، وليست لخوض حرب. كما أن 80 بالمائة من المصابين تتلوث وتتقيّح جراحهم، و6 آلاف في حاجة مُلحّة لمغادرة غزة للعلاج وإجراء العمليات، ولم يخرج سوى عُشرهم.

وأكد المُحاضر أن النضال من أجل الحرّية ليس صدقة، بل هو نضال من أجل الانعتاق والعدالة، وفي حالة فلسطين، يجب أن ينتهي الاستعمار، وتُؤسّس الدولة الفلسطينية. وإن لم تكن تضحيات الشعب في غزّة الذي يهرع لإنقاذ المصابين من تحت الأنقاض فكيف تكون البطولة؟ وهذا ليس جديداً، فخلال الثمانية عشر عاماً التي عملت فيها بغزّة، كان الاحتلال يستقصد ضرب المستشفيات والمدنيّين.

وختم غيلبيرت بالإشادة برباطة جأش الكوادر الطبية الذين ما زالوا يقدّمون ويبذلون أقصى ما عندهم، في وقت قد يكون المُصاب أمامه أحد الأقرباء أو المعارف، مع ذلك نراهم يُجرون عمليات فرز الحالات حسب الخطورة بكلّ هدوء، رغم الضغط النفسي والبدني الهائل. لكنّ أخطر مشكلة تتهدّد العالم اليوم هي حصانة "إسرائيل" وإفلاتها من العقاب، بعد كلّ العدوانات التي ارتكبتها منذ 1948، وهذا ما يجب ألّا يتكرّر.
 

المساهمون