مئوية سعيد حليم: حفيد محمد علي الذي انشغل بتأخّر المسلمين

17 مارس 2021
بورتريه لـ سعيد حليم (Getty)
+ الخط -

يُمثّل سعيد حليم (1865 - 1921) شخصيةً فريدة من نوعها بسبب مكانة أُسرته ما بين مصر والدولة العثمانية، وتنقُّله بين المعارضة للسلطان عبد الحميد الثاني والسلطة الدستورية، وصولاً إلى منصب الصدر الأعظم خلال 1913-1917، وانشغاله بموضوعات فكرية وفلسفية شغلت الشرق والغرب. من تلك الموضوعات أسباب تأخُّر المسلمين في ذلك الوقت، وريادية ما نشره خلال 1909-1921؛ حيث إنه كان ينشر مؤلّفاته بالفرنسية ليُخاطب بها النخبة المروّجة لدور الإسلام في تأخُّر المسلمين، لتترجَم بعدها إلى التركية بواسطة صديقه الشاعر محمد عاكف (1873 - 1936)، فتثير بدورها موجةً جديدة من النقاش في مجتمع يفتقر إلى تحليلات سوسيولوجية عميقة، بحكم دراسة المؤلّف في سويسرا.

لكنَّ حياة حليم الغنيّة، التي كانت تَعِد بالكثير على المستوى الفكري والسياسي، انتهت فجأةً باغتياله في روما عام 1921 على يد أرمني، على الرغم من أنّ محكمة جرائم الحرب برّأته من أية مسؤولية عمّا لحق بالأرمن من مجازر.

وعلى الرغم من هذا الاغتيال، الذي يُنسب أيضاً إلى جهة أُخرى، والذي جاء بعد أسابيع مِن صدور آخر دراسة لحليم نُشرت بالفرنسية في روما، بقيت مؤلّفاته تُترجَم وتثير النقاش وتُرسِّخ من مكانته بعد رحيله. ففي 1927، تَرجم المستشرق البريطاني المعروف، مارمادوك بكتال (1875 - 1936)، الذي اعتنق الإسلام، دراسته "المؤسَّسات السياسية في المجتمع المسلم" إلى الإنكليزية، التي وصلت إلى يد الشاعر والمفكّر محمد إقبال (1877 - 1938)، الذي كان مهتمّاً بهذه المواضيع، فأُعجب كثيراً بحليم، حتى إنّه رفعه إلى مكانة الأفغاني في ملحمته الخالدة "رسالة الخلود" (أو: "جاويد نامه")، التي نشرها في 1932 وتُرجمت لاحقاً إلى العربية وغيرها من اللغات.

قدّم استقالته من منصب الصدر الأعظم وتفرّغ للبحث والكتابة

لكنَّ الاهتمام الجديد بسعيد حليم، أو اكتشافه مجدَّداً، كمفكّر وفيلسوف، بدأ في الألفية الجديدة مع عدّة كتب ودراسات صدرت بالإنكليزية؛ منها دراسة سيّد تنوير واسطي "سعيد حليم باشا الأمير الفيلسوف" المنشورة في مجلّة "دراسات شرق أوسطية" في 2008، ورسالة دكتوراه لأحمد شيخون بعنوان "سعيد حليم باشا: رجل الدولة العثماني والمفكر الإسلامي" (2010) وغيرها. وكان آخرها كتاب أحمد شيخون نفسه، الذي صدر في لندن هذا العام، تزامناً مع الذكرى المئوية لرحيل حليم، بعنوان "الأيديولوجيات المتنافسة في نهاية الدولة العثمانية وبداية الجمهورية التركية"، والذي ضمّ دراسات مختارة لمثقّفين إسلاميّين وقوميّين ترك ومتغرّبين، وتصدّرت غلافه صورة سعيد حليم إلى جانب صور مفكّرين آخرين.

أمّا في العربية، فالإشارات لا تزال محدودة إلى سعيد حليم؛ من بينها ترجمة عبد الرزاق بركات لأحد مؤلّفاته من التركية (أي أنّه ترجمة عن ترجمة) ونشرها بعنوان "لماذا تأخّر المسلمون؟" (القاهرة، 2008) مع دراسة عنه سنعود إليها لاحقاً.


بين القاهرة وإسطنبول

وُلد سعيد حليم عام 1865 في قصر محمد علي في شُبرا، حيث كان يعيش عبد الحليم (1831 - 1894)، أحد أبناء محمد علي، الذي كان يُفترَض أن يخْلف الخديوي إسماعيل (تولّى حكم مصر في 1863) لكونه أكبر أحفاد محمد علي باشا، بالاستناد إلى الإرادة السلطانية المنبثقة من معاهدة لندن عام 1841، التي تركت مصر تحت حكم محمد علي باشا وأكبر أفراد أسرته من بعده. لكنّ الخديوي إسماعيل أغرى السلطان في 1866 ليُصدر تعديلاً تُصبِح بموجبه وراثة الحكم لولده توفيق وأحفاده من بعده. وبسبب ذلك، احتجّ الأمير عبد الحليم وغادر مصر إلى إسطنبول.

الصورة
قصر سعيد حليم في القاهرة - القسم الثقافي
(بيت سعيد حليم في القاهرة)

كان عبد الحليم، أو حليم باشا كما عُرف، قد تخرّج من الكلّية العسكرية للقيادة والإدارة في فرنسا، وعُرف عنه اهتمامه بالثقافة الشرقية أيضاً، وهو ما جعله يهتمّ بتعليم ولدَيه سعيد وعبّاس حليم (1866 - 1934)، إذ حرص على تعليمهما اللغات الشرقية (العربية والتركية والفارسية) والأوروبية (الفرنسية والإنكليزية) وإرسالهما للدراسة في سويسرا، حيث درس سعيد العلوم السياسية بين عامي 1880 و1885.

بعد عودته إلى إسطنبول، عيَّنَه السلطان عبد الحميد الثاني عام 1888 عضواً في مجلس الدولة، الذي لم يكن له دورٌ فعّال بعد تجميد الدستور العثماني في 1878. ولذلك ازداد اهتمام سعيد حليم بالقراءة في النظم السياسية وأحوال العالم الإسلامي وأسباب تأخّره عن التقدّم الأوروبي المتزايد. ومع مقارنة ذلك بحكم السلطان "الظالم"، كما كان يعتبره، لم تعد لدى حليم دافعية للعمل في مجلس الدولة، وكثرت ملاحظاته التي كان يبديها إلى ضيوفه، إلى حدّ قيام الجهاز السرّي بتفتيش بيته في 1905. ومع هذا التصرّف، ترك إسطنبول والتحق بالمعارضة في الخارج، ممثّلةً في "جمعية الاتحاد والترقّي" التي كان لها وجود فعّال في القاهرة وتُصدر فيها جريدة "عثمانلي" بتمويل من سعيد حليم نفسه.

وبعد الثورة الدستورية، عاد إلى إسطنبول لينشط في الكتابة والنشر بحرية، ويصعَد في الهرمية الحكومية الجديدة، حيث تولّى أولاً وزارة الخارجية في 1912، ثم الصدارة العظمى خلال 1913-1917. كان سعيد حليم، بثقافته الواسعة وبُعد نظره، يفضّل - مع توتّر العلاقات في أوروبا عشيّة الحرب - أن تبقى تركيا على الحياد. حاول أن يفاوض بريطانيا على ذلك مقابل ضمان سلامة أراضي الدولة العثمانية، ولكنّ لندن لم تستجب بسبب تحالفها مع روسيا القيصرية وفرنسا ومطامع هذه الدول في الدولة العثمانية. واستغلّ الجناحُ المؤيِّد لألمانيا، وعلى رأسه أنور باشا، هذه الفرصة ليُوقِّع معاهدةً سرية مع ألمانيا لدخول الحرب العالمية الأولى والهجوم المباغِت على روسيا.

صحيحٌ أنَّ سعيد حليم كان، من حيث الشكل، على رأس السلطة التنفيذية (الصدر الأعظم)، إلّا أن السلطة الحقيقية أصبحت في يد الثلاثي القومي (أنور باشا وطلعت باشا وجمال باشا)، ولذلك آثر تقديم استقالته في 14 شباط/ فبراير 1917 والتفرّغ للبحث والتأليف في بيته المطلّ على البوسفور. إلّا أن نهاية الحرب العالمية في خريف 1918، واحتلال الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا) لإسطنبول، فرضا واقعاً جديداً. فقد تشكّلَت حكومة جديدة منصاعة للحلفاء في إسطنبول برئاسة فريد باشا، ومحاكم عرفية لمحاكمة كبار المسؤولين في الدولة العثمانية عن توريطهم للدولة في الحرب ومجازر الأرمن. وكان ممّن قُدّموا إليها سعيد حليم، إلّا أنه أُطلق سراحه بعد ثبوت عدم تورّطه في أيّ اتهام.

الصورة
دارة سعيد حليم على البوسفور - القسم الثقافي
(دارته على البوسفور)

غير أنَّ السلطة العسكرية البريطانية اعتقلته في أيار/ مايو 1919 ونفته إلى مالطا لكي تُحقّق معه من جديد، ولكنّها اضطرّت إلى إطلاق سراحه في 29 نيسان/ إبريل 1921، بعد أن عجزت عن إثبات أيّ اتهام ضدّه، مجدّداً. طلب سعيد حليم أن يعود إلى القاهرة أو إسطنبول، لكنَّ السلطات البريطانية لم توافق، فاضطرّ إلى أن ينتقل إلى روما، حيث استأجر بيتاً. وخلال وجوده فيها، حدثَ تواصُلٌ بينه وبين الحركة الوطنية المسلَّحة بقيادة مصطفى كمال ــ التي كانت بأمسّ الحاجة إلى السلاح لكونها تحارب المحتلّين على عدّة جبهات، ضد بريطانيا وفرنسا واليونان ــ للبحث عن تمويل مناسب لشراء السلاح. وتمكّن حليم بفضل علاقاته المصرفيّة من تدبير قرض لحكومة أنقرة لتمويل شراء السلاح، وكان مستعدّاً للذهاب والتوقيع عليه في 4 كانون الأول/ ديسمبر 1921، ولكنّه تعرّض للاغتيال في اليوم السابق.

ومع أنّ اليد التي أطلقت عليه النار أرمنية، بحجّة مسؤوليته عن مجاز الأرمن، إلّا أن الشكوك اتّجهت إلى لندن، لأنها كانت المستفيدة من عدم توقيع القرض وتزويد حكومة مصطفى كمال بالسلاح. 


بين الشرق والغرب

كان سعيد حليم، قبل ذهابه لدراسة العلوم السياسية في سويسرا، يتمتّع بتأسيس جيّد في اللغات والثقافة الشرقية. وخلال وجوده في سويسرا (1880 - 1885)، كان الغربُ يزهو بتقدُّمه ويُطلق الأفكار والنظريات حول أسباب تأخُّر الشرق والمسلمين، ومن ذلك ربطُ التأخُّر بالإسلام نفسه، كما جاء في كتابات المؤرّخ والوزير الفرنسي غبرييل هانوتو (1853 - 1944)، الذي ردّ عليه الشيخ محمد عبده لاحقاً في كتابه "الإسلام بين العلم والمدنية". ويبدو أن حليم كان ممّن قرأوا لمحمد عبده وتأثّروا به.

بعد عودته إلى إسطنبول مِن سويسرا، واطّلاعه على مناهج البحث وأنظمة الحُكم الغربية، شعر حليم بالغربة في ظلّ نظام حُكمٍ مطلق، مع أنّ السلطان عبد الحميد كرّمه بتعيينه عضواً في مجلس الدولة. ولكن، مع المضيّ في قراءاته عن الإسلام والشرق والاستبداد، انشغل عن الوظيفة التي لم تعُد تقنعه بنظام الحكم الحَميدي الذي ضيّق عليه بتفتيش بيته، ولذلك فضّل أن ينتقل إلى المعارضة في الخارج ليعود إلى إسطنبول في 1908، بعد إعلان الحرية وعودة الحياة الدستورية.

ألّف بالفرنسية ليواجه تحامُل العالَم الغربي على الإسلام

في هذه الظروف الجديدة، انشغل حليم بالتأليف باللغة الفرنسية ليواجه العالَم الغربي المتحامِل بآرائه منذ 1909؛ حيث أصدر أوّلاً "تقليدُنا للآخرين"، وألحقه بثلاث عشرة دراسة حتى عام 1921، الذي شهد صدور دراسته الأخيرة "المؤسّسات السياسية في المجتمع المسلم". وتجدر الإشارة إلى أن مؤلّفاته حتى 1917 كانت تصدر تحت اسم "محمد"، بسبب مناصبه التي كان يتولّاها، ولكنْ بعد استقالته، أصبحت تصدر باسمه الكامل.

ما في كتابه الأول الذي صدر بالفرنسية في عهد الحرية، عام 1909، ثم بالتركية عام 1910، نقَعُ على رؤية نُبوئيّة تتعلّق بالاستبداد، وبالتحديد بعد خلع السلطان عبد الحميد الثاني في 1909؛ حيث يقول إن خلع الحاكم المستبدّ بالقوّة لا يعني أنّ الشعب قد نجا من الاستبداد أو أنّ الاستبداد لن يعود. صحيحٌ أن الاستبداد الفردي قد سقط مع إعلان الدستور في 1908، ولكنّه عاد بشكلٍ مبطَّن مع سيطرة الثلاثي الاتحادي (أنور وطلعت وجمال) على الحكم بعد 1914.

الصورة
سعيد حليم - القسم الثقافي

في آخر مؤلَّف له صدر باسم "محمد"، في 1917 بعنوان "التعصُّب"، يثير حليم مسألة التوتّرات بين الغرب والشرق؛ فهو يُذكِّر الغرب بإسهامات علماء المسلمين في النهضة الأوروبية، وبأنّ الشرق الأدنى بالذات كان أكثر المناطق معاناةً من هجمات الأوروبيّين منذ الحروب الصليبية التي تركت أثرها خلال عدّة أجيال. ومن ناحية أُخرى، يُقرّ بأنّ المسيحيّين في الغرب تمكّنوا من جعل عقيدتهم تنسجم مع العلم، بينما كان الأمر مختلفاً مع علماء المسلمين الذين كانوا بعيدين عن التغيّرات الكبيرة التي لحقت بالعالَم.

وفي كتابه الأخير، "المؤسّسات السياسية في المجتمع المسلم"، الذي صدر قبل اغتياله بأسابيع، يُعبّر عن سروره بكون المسلمين يسعون إلى التحرُّر من الحكم الاستعماري الغربي، ولكنه لا يخفي أسفه لأنّ حكّام المسلمين أنفسهم يُعبّرون عن رغبتهم في إقامة مؤسّسات غربية في بلادهم. ومع أنّه يؤكّد أنّ المسلمين لديهم ما يتعلّمونه من الغرب، بالاستناد إلى حضّ الرسول محمد أتباعه على طلب العلم ولو في الصين، إلّا أنه لا يرى التقدُّم في تقليد ما هو موجود في الغرب. ومن ناحية أُخرى، يخوض في المسألة الرئيسية التي شغلته (أسباب تأخُّر المسلمين)، ويردُّها إلى سبَبين اثنين: استبداد حكّام المسلمين، وانغلاق علماء المسلمين عن التطوّرات في العالم وفشلهم في تقديم تفسير عصري للإسلام.

وفي ما يتعلّق بأسباب تأخّر المسلمين، يعترف المؤلّف أنّ الأوروبيّين سبقوا المسلمين في تشخيص أسباب تأخّرهم، ولكنه لا يتّفق معهم على اعتبارهم الإسلام سبباً للتأخّر في حدّ ذاته. وفي تحليله لذلك، يُقرّ بأنّ تجربة الأوروبيّين مع الدين خلال القرون الوسطى جعلتهم يُعمّمون تجربتهم على الآخرين، بينما يرى أنَّ الدين في حالة اليابان والصين مثلاً لم يقف حائلاً أمام الانبعاث الحضاري من جديد.

تفيد المئويات في استذكار شخصيات ريادية في مجالات عديدة، ويستحقّ سعيد حليم، اليوم، أن تصدر مختاراتٌ من مؤلّفاته مع دراسة عنه بالعربية، التي لا تستضيف كثيراً من الاشتغالات عنه، مقارنةً بالإنكليزية.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون