في كتابه "مذكّراتي في السياسة والثقافة" (1988)، يروي ثروت عكاشة، الذي تمرّ مئة سنة على مولده العام الجاري، حكاية عودته ذات ليلة من حضور عرض أوبرا عن القيصر الروسي بوريس غودونوف في "دار الأوبرا" في روما، التي كان سفير مصر فيها آنذاك، وتفاجؤَه بقرارٍ بثّته إذاعة القاهرة، يفيد بتشكيل حكومة مصرية جديدة يتقلّد عكاشة نفسُه منصبَ وزير الثقافة والإرشاد القومي فيها.
يذكر الضابط الذي شارك في حركة تموز/ يوليو 1952، والمثقّف واللغوي والمترجم (1921 – 2012)، أنه رغم إيمانه بـ"أهمية العمل الثقافي"، إلا أنه لم يرد أن يخلط بينه وبين العمل في السياسة، التي اعتُبِر من المختلفين في ممارستها، إن كان في مصر أو خارجها.
ويحكي أنه ما إن عاد إلى القاهرة، في غضون أربع وعشرين ساعة، حتى قدّم إلى الرئيس المصري جمال عبد الناصر اعتذاره عن قبوله منصباً لم يُستَشَر في أمر إسناده إليه. لكنّ الرئيس المصري الراحل أصرّ على إقناعه بتقبّل المهمّة، مؤكّداً له أنه سيكون خارج تدخّلات مَن "لا يطمئنّ إليهم".
في حوار مطوّل ولا تنقصه الصراحة، بدا عكاشة غير آمنٍ في أجواء مَن وصفهم بـ"الشلل والجماعات المتسلّطة". إذ كان عليه، أمام إلحاح عبد الناصر، أن يُخرِج الثقافة من حدود العاصمة لتصبح في متناول الجماهير في الأرياف وباقي المدن، وذلك فقاً لوعودٍ وآمال وتنظيرات كانت تتملّك عكاشة قبل الثورة وبعدها، وتحدّث عنها كثيراً لعدد من رفاقه. بعد ليلتيْن من التفكير، وافق عكاشة على منصب لم يكن "مرتاحاً" لقبوله، على حدّ قوله.
فوجئ بتعيينه وزيراً للثقافة ولم يأمن شرور أهل السياسة
بعد نحو شهرين من تعيينه، سيُستدعى صاحب كتاب "القيم الجمالية في العمارة الإسلامية" إلى رئاسة الجمهورية ليستمع إلى تسجيل لمجموعة أشخاص يشتمون عبد الناصر في إحدى الجلسات الخاصة، ومن بينهم يحيى حقّي. هنا، سيطلب منه الرئيس المصري شخصياً أن يُقيل حقّي من منصبٍ كان يتولّاه في وزارة الثقافة، رغم أن الأخير بقي صامتاً في التسجيل ولم يشارك في السباب. لكن عكاشة رفض إقالته، وعالَج المسألة على طريقته، حيث أسند إلى حقي مهمة أخرى.
غير أنّه يقرّ في موضع آخر من مذكّراته بأنه لم يتمكّن من إطلاق سراح لويس عوض الذي كان قد عيّنه بنفسه، بعد طول إلحاح، مسؤولاً عن الإدارة الثقافية، حيث اعتُقل بتهمة انتمائه الشيوعي دون وجه حقّ، كما يدوّن في مذكراته.
بدأ الوزير عمَله في ظروف لا تروق لشخصيّةٍ مثله، بل إنّه يلفت إلى أن "الإرشاد القومي" الذي كان ملازماً لـ"الثقافة" حتى عام 1966 شكّل عائقاً أمام تطوّر وزارةٍ حديثة العهد. وقد قدّم رؤية معمّقة حول مفهومه الخاص للثقافة، ملخّصاً إياه بأنها حقّ لكلّ فردٍ، وأن هذا يتحقّق عبر استراتيجية تنموية يشارك في رسمها الكتّاب والمثقفون، الذين دعاهم إلى اجتماع لمناقشة الأمر. وكانت أولى نتائج هذه الرؤية إقامةُ قصور للثقافة في جميع أنجاء البلاد عام 1959.
أسّس بنية تحتية ثقافية لا تزال قائمة لليوم في مصر
واشتملت ميزانية ذلك العام على إنشاء وتطوير مجموعة من الهيئات والمؤسسات الثقافية، ومن ذلك تجديدُ المتحف المصري ودار الأوبرا وتخصيص مطبعة جديدة لدار الكتب، واستكمال بناء متحفَي بور سعيد والنيل، وإعداد متحف دار البلدية في القاهرة، وإنشاء مسرح صيفيّ ومتحف في الإسكندرية، وتأسيس مراكز للحِرَف الشعبية، ووحداث ثقافية متنقّلة في الأرياف، إضافة إلى السيرك القومي ودار لعرض الفنون التشكيلية.
لم يقف طموح عكاشة عند هذه الحدود، إذ أطلق "مشروع الألف كتاب"، وبدأت حركةٌ نشطة في التأليف والترجمة والتحقيق عبر مجموعة سلاسل ثقافية، توقّف بعضها عن الصدور في وقت لاحق، مثل "سلسلة تراث الإنسانية" و"سلسلة المكتبة الثقافية" و"سلسلة أعلام العرب" و"سلسلة مسرحيات عالمية"؛ وكانت تباع نسخها بأثمان زهيدة. كما أطلق مشروعَيْ "دائرة المعارف الإسلامية" و"القاموس الإنكليزي العربي"، ومعجمَي "الرائد الصغير" و"الرائد المصوّر"، وكتاب "الفن المصري المعاصر" وكتاب "القاهرة في ألف عام".
رأى أن "الإرشاد القومي" أكبر عائق أمام العمل الثقافي
أسّس صاحب كتاب "معجم المصطلحات الثقافية" أيضاً "معرض القاهرة الدولي للكتاب"، الذي انطلقت دورته الأولى عام 1969، ومؤسّسةً عامّة لفنون المسرح والموسيقى، و"الفرقة القومية للفنون الشعبية"، و"مؤسسة دعم السينما"، و"أكاديمية الفنون"، و"المعهد العالي القومي للموسيقى"، و"معهد الباليه". كما يشير، في مذكّراته، إلى أفكاره التي حلم بتنفيذها في سورية زمن الوحدة، لكن الأخطاء السياسية قادت إلى إفشال الوحدة بأسرها، وليس ثقافتها فحسب.
في حديثه عن تلك المبادرات، يَبرُز حجم معرفة عكاشة واطّلاعه المعمّقين في كلّ قطاع من قطاعات الثقافة في مصر الحديثة، منذ بدايات القرن التاسع عشر، وكذلك تقديرُه للإضافة والتطوير المطلوبَين، عبر رجوعه الدائم إلى أصحاب الاختصاص والخبرة الذين عهد إليهم إدارة مشاريعه الثقافية. كلّ ذلك ضمن فهمه الأوسع للدور الحضاري الذي يجب أن تلعبه مصر، وخلْفها العالمان العربيّ والإسلاميّ.
من نافل القول إنّ درب ثروت عكاشة لم تكن مفروشةً بالورود. إذ رغم اعترافه بالدعم الكبير الذي تلقّاه من جمال عبد الناصر شخصياً، إلا أنه يقّر أيضاً بالقبضة الأمنية الشديدة التي كانت تقمع المثقفين والثقافة، مدركاً أهمية اجتهاده في مواجهة ذلك، ولو بالحدّ الأدنى. موقفه هذا يذكّر بالمفكّر المصري رفاعة الطهطاوي (1801 – 1873)، الذي أنشأ هو الآخر مؤسّسات الثقافة في دولة محمد علي باشا، وكان يترصّد به الأصدقاءُ قبل الأعداء، ساعين إلى إعاقته متى ما استطاعوا ذلك.
عكاشة والطهطاوي شخصيتان تمكّنتا من خدمة الثقافة المصرية ضمن رؤية حقيقيّة حول ضرورة تحديث المجتمع ونشر المعرفة، وحول فهمٍ للثقافة يرى فيها الضمانة الأساسية لسيادة الدول واستقلاليتها والنهوض بها؛ حقيقةٌ يعرفها الساسة بالتأكيد، لكنّهم أول من يجحد بها.