لو أنّي رأيتُ كوفيةً فلسطينية في براغ

15 يونيو 2024
الشرطة تُطوّق تجمُّعاً في براغ مندّداً بالحرب على غزّة، 5 آذار/ مارس 2024 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- خلال زيارة لبراغ، يتأمل الكاتب في تأثير ثورة براغ المخملية والتاريخ التحرري للتشيك على موقفهم من القضية الفلسطينية، مع الإشارة إلى اعتراف دول أوروبية بفلسطين.
- يلاحظ الكاتب قلة الاهتمام التشيكي بالقضية الفلسطينية، مرجعًا ذلك ليس للمعاداة بل لغياب التعبير الفعّال والتأثير السياسي الأوسع للعلاقات الدولية، خاصة مع إسرائيل.
- يؤكد على أهمية التواصل والعلاقات العامة في تقديم القضايا العربية للجمهور التشيكي، مشددًا على ضرورة كسر الحواجز اللغوية والثقافية لإيصال معاناة فلسطين.

عندما استَقْللتُ الطائرة في اتجاه العاصمة التشيكية براغ، أعلنَت النرويج والسويد وإسبانيا اعترافها الرسمي بدوله فلسطين. خامرني مباشرة سؤالٌ حارق: ما موقف الجمهورية التشيكية حكومةً وشعباً من القضية الفلسطينية؟ هل ستؤثّر روح ميادين براغ ورمزية ثورتها المخملية التحرّرية في المزاج الشعبي والرسمي؟ وهل تدفع تلك الروح هذه الدولة فتُسارع، هي الأُخرى، إلى الاعتراف بدولة شعبٍ وأرضٍ تُعاني مرارة الاحتلال منذ خمس وسبعين سنة؟

سرتُ في شوارع براغ، أتملّى روحها العميقة وأسترجع هتافات المُتظاهرين. إلّا أنّ المدينة كانت، عشية ذلك اليوم، زاهيةً جَذْلى، كأنّما تعيش مهرجان مشاهد وألوان وأصداء، مهرجان يُبهج العيون والآذان. فبين الفينة والأُخرى، تمرّ مجموعة بزيّها وشاراتها الملوّنة، بدءاً من كوكبة من رُّهبان التبت، في جلابيبهم البرتقالية، مرّوا وبأيدهم دفوف، ثمّ تتلوها جماعة من متسابقي سيارات رياضية قصيرة جدّاً تُذكّر بمركبات الحرب الأُولى، وبعدها فرقة نُحاسية ترتدي الملابس السلافية التقليدية، ثم فريقٌ من الرسّامين وآخر من ممثّلين مقنَّعين. ويتوالى العارضون زُرافات ووحداناً، يرتدون ملابس مُميَّزة، حتى لا تكاد تمضي دقائق معدودة من دون أن يتمتّع الناظر والسامع بموكب جماعة تُدافع عن قضيّة أو تُذكّر بهوية.

لم أملك خيالي من أن يجنح، في تلك اللحظات، فيتصوّر فلسطينيات وفلسطينيّين يعتمرون الكوفيّة الخالدة ويرقصون الدبكة في تلك الشوارع أو يعبرون الساحة ولو في حُزن وصمتٍ بهدف أن يُعرّفوا، مثل غيرهم، بقضيّتهم العادلة. عُدت إلى طاولة المقهى سائلاً زميلي التشيكي عن أسباب غياب القضية الفلسطينية لدى الرأي العام.

الشعب التشيكي أقربُ إلى المعضلة الروسية الأوكرانية

أجابني بديهةً: "إنّ الانطباع العامّ هنا هو قلّةُ اكتراثٍ أكثر منه معاداة، شعورٌ بأنّ القضيّة الفلسطينية بعيدة مَجهولة، لم يُعبّر عنها العرب بالشكل الملائم الذي يُكسبهم تعاطف الغير، أكثر منه رفض للعرب ولقضاياهم. الشعب التشيكي أقرب، في حياته اليومية، إلى المعضلة الروسية - الأوكرانية، لأنّ مهجَّرين ولاجئين توافدوا من أكرانيا، البلد المجاور، فملأوا شوارعَهم ومحالّ أعمالهم، في حين تظلّ الثقافة العربية قارّة مجهولة بعيدة، لا تحدّث عقولهم وقلوبهم بشكل مباشر".

لكنْ، عندما رأى محادثي عدمَ اقتناعي بهذا الجواب السهل، أضاف: "غالبية الشعب تُعارض وجهات الحكومة ولا تقبل بانحيازها الأعمى لإسرائيل. ولا يعكس هذا الانحياز الرؤية الغالبة لدى الجماهير، فما فعلته الحكومة ليس سوى استرضاءٍ لأميركا ومناكفة لروسيا، بل هو موقف غبيّ سيُثير حفيظة الحلفاء العرب والمسلمين، وسيجعل البلد يخسر العديد من الفرص الاقتصادية والثقافية مع الدول العربية".

أدركتُ صامتاً أنّ المسألة في جوهرها مسألة تواصل وعلاقات عامّة، تقتضي إتقان فنّ التعريف بالذات لدى الآخر، لا كما نودّ أن نُظهرَ نحن التزامنا، وإنّما بحسب المقولات التي تُقنعه وتمسّه في الصميم، لا تُخيفه ولا تعارض بشكل ضدّي ما دَرجَ عليه من المبادئ. وهنا تكمن الصعوبة، وهذا ربّما ما قَصّر فيه العرب، ولا سيّما في مناطق لغوية وثقافية غير مألوفة لدينا مثل جلّ دول أوروبا الوسطى، كالمجر والتشيك وسلوفاكيا وغيرها.

مسألة تواصُلٍ تقتضي إتقان فنّ التعريف بقضايانا لدى الآخر

يُضاف إلى ذلك الحاجز اللغوي الذي يمنع العرب من الاستثمار في اللغة التشيكية، كما يمنع الناطقين بهذه الأخيرة من إتقان الضادّ والثقافة العربية المقترنة بها، مع أنّ الطرفَين سيجنيان الكثيرَ من المكاسب إن هُما كسرا هذا الحاجز وانفتحا أكثر بعضهم على بعض، علماً أنّ التشيكيّة، وهي من أصل سلافي، مثل لساننا لغةُ إعراب وحركات، تحكمها العوامل النحوية، وهو ما يوفّر عنصراً مُيسّراً لمعرفتها.

هذا التقصير هو ما جعل فلسطين وسائر رموز العروبة والإسلام غير مرئية في الفضاء العامّ بالشكل الكافي، باستثناء إشارات نادرة إلى مَطاعم "الكباب" أو محالّ بيع الأكل الحلال التي يقصدها مسلمو البوسنة والهرسك، في غياب تامّ لرموز الثقافة والفنّ والآداب وتجاهُلٍ مُحزن لهذا المكوّن الذي يمكن أن يكون رافداً معرفياً لا يستهان به.

ومع ذلك، لم أتمالك نفسي من استحضار أحد أبرع المستشرقين التشيكيّين؛ ألويس موسيل (1868 - 1944)، الذي أتقن العربية الفصحى ومعها ثماني عشرة لهجةً، وهو الذي عاشر البدو في فلسطين والأردن والمنطقة العربية الصحراوية، وهو من أوائل مَن رَسم خرائط دقيقة عن مناطق القبائل ودوّن عاداتهم ولهجاتهم بدقّة متناهية، مع التنصيص على أهمّيتها الاقتصادية. وقد نُشرت تلك الخريطة لدى "معهد المساحة العسكري النمساوي" عام 1906. إلّا أنه، ورغم عِلمه الجمّ، كان يعمل لصالح إمبراطورية النمسا - المجر، وكان يُساعد قادتها على إيجاد أسهل الطُّرق للتفاعل مع الشرق، وهو ما يُظهر ولعاً استشراقياً ممزوجاً بالرغبة في الاستفادة من "كنوزه".

ثم عدتُ بذاكرتي أدراج الماضي القريب: فخلال الحقبة الشيوعيّة، كانت لتشيكوسلوفاكيا علاقاتٌ جيّدة مع الدول العربية ذات التوجّه القومي، وكان لها مواقف مناصرة لقضايانا. "بعد كسر الطوق السوفييتي والالتحاق بالمعسكر الغربي - أضاف زميلي - تُنوسيَ هذا الإرث الاشتراكي، بل صار كبش فداء توضع عليه كلّ شرور الراهن ونقائصه، وبات من الدارج لدى ساسة البلد ومثقّفيه الإنْحاء باللائمة على الفترة السوفييتية بوصفها مصدرَ الشرور وسبب التخلّف. ولذلك يُسارع هؤلاء القادة أنفُسهم إلى تبنّي وجهة النظر الغربية، وليتهم عادوا، ولو للحظات عابرة، إلى تاريخهم القريب، لكانوا رأوا فيه مأساة فلسطين ماثلةً أمام ناظرهم".

تساءلتُ وأنا أستقلُّ طائرة العودة: كيف لا يعي هذا الشعب مأساة فلسطين وشعبها، وهو الذي تغيّرت، أو بالأحرى غُيّرت، خرائطُ بلده عدّة مرّات طيلة القرن الماضي، بل ومُحيت أصلاً من خريطة العالم ردحاً من الزمن وقُلّصت مساحاته وأُضيف بعضُها إلى دول أُخرى بفعل القوى المُهيمنة، ثم أُعيد توحيدها مع بلد آخر (سلوفاكيا) فقط حفاظاً على أديم الأرض حتى لا تبتلعه الدول المجاورة؛ ما يؤكّد أنّ الوعي بالأرض والغيْرَة على حدوده وبقاءه سالماً هي في أعماق الشخصية الجماعية لهذا الشعب، وهي بَوصلته. فكيف لا يقبلها لغيره من الشعوب التي تعيش نفس النكبة وبنفس الوعي منذ عقود؟

واصلتُ التساؤل: كيف لا يهتمّ هذا البلد شعباً وحكومة بفلسطين، في حين أنّه كان أوّل مَن انتفض ضدّ الدكتاتورية السوفييتية وأساليب اضطهادها وعنفها؟ وهو عين ما تُمارسه اليوم "حكومة الحرب" الإسرائيلية ضدّ شعب أعزل. ألا يُمكن أن يرَوا فيها تاريخهم وجزءاً من معاناتهم حين احتلّهم هتلر وألحقهم بـ"الرايخ"؟

جنح بي الخيال مُجدّداً: لو اعتمرَت مدينة براغ الكوفيةَ الفلسطينية لازداد تألّقها ولتأكَّد وفاؤها لهتاف المتظاهرين في ميدان "فنسلاس"، في الثورة المخملية، من أجل التحرّر والكرامة. وهذا تحديداً عينُ ما يرنو إليه شعب فلسطين.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون