لويز غليك: شاعرةٌ تعود إلى الطفولة دائماً

10 أكتوبر 2020
(لويز غليك)
+ الخط -

كان لقائي الأوّل مع أشعار لويز غليك (1943)، الحائزة "جائزة نوبل للآداب" لهذا العام، خلال دراستي الجامعية لأدب اللغة الإنكليزية. استوقفني البيتُ الذي تختم به قصيدتها "نوستوس": "ننظر إلى العالم مرّةً واحدة، في الطفولة/ والبقية ذكرى". ولسنوات طويلة بقيتُ في حوارٍ دائم مع ذلك البيت.

ونوستوس، عنوانُ القصيدة، يأتي من مفردة يونانية قديمة عن العودة المتأخّرة أو العودة إلى الوطن، وهو موضوعٌ مستخدَم في الأساطير اليونانية، ويرمز إلى بطل ملحمي يعود إلى الوطن بعد غياب عن طريق البحر. في تلك القصيدة، تعود أنا الشاعرةِ إلى الطفولة، تُطلُّ عليها من ذاكرة الطفلة التي نظرَت إلى شجرة تُفّاح في الفناء، لم تعد موجودةً في مكانها بعد مرور أربعين عاماً. وتأخذك أنا الشاعرةِ إلى رائحة العشب المقصوص للتوّ لتنتهي بك في ذلك السطر الذي يقلب موازين الأمور رأساً على عقب.

في هذا البيت، تُصبح الذاكرة هي المستقبل، هي كلُّ ما نعيشه وسنعيشه في المستقبل، وكأنّها مرآةٌ أو شبحٌ هزيل للذكرى الأولى أو ينبوعها... وكأنَّ كلَّ تلك التجارب في المراهقة والشباب ليست إلّا وهماً يُحيلنا بصورة دائرية إلى النقطة الأُولى.

تبسّط أشياء معقَّدة وتضعها في قوالب شعرية مليئة بالصوَر

هذا المدُّ والجزر بين الواقع والخيال وتأثيرُه على الذاكرة تتناوله في إحدى مقالاتها التي تحمل عنوان "عن الواقعية"، وأُعيدَ نشره عام 2017 في كتابها "الأصالة الأميركية: مقالات عن الشعر". وتقول فيه حول قراءتها المبكّرة: "مِن المحتمل أنّه لم يكُن لديَّ أبداً إحساسٌ دقيقٌ بما يُسمَّى الواقعية لأنّني، كقارئة، لا أميّز بينها وبين الخيال. إنَّ أوّلَ قراءتي كانت الأساطير الإغريقية. ومثلما هو الأمر في صلواتي، لا شيء حُذِف، لكن أُضيفت إليه مقولات أخرى".

في المقابل، فإنَّ "الواقعية بطبيعتها تاريخية، تقتصر على فترة. ترتدي الشخصيات ملابسَ بعينها، تأكل أشياء معيّنة، المجتمع يُحبطها بطُرُقِ معيَّنة، وبالتالي فإنَّ الحقيقيَّ (أو الواقعي من الناحية النظرية) يكتسب من خلال الزمن ما كان للخيال دائماً، جوّاً ممّا هو غير محتمل". وتختم مقالها: "كيف يفهم الطفل الكتب؟ كدعوة للعيش في الخيال لفترة، كهدية من الأثاث أو الزخارف لتلك الحياة. وتصبح الحياة داخل الرأس خلال الفترة التي يقرأ فيها الكتاب مكثّفةً أكثر وغنيّةً بالتفاصيل الغريبة، بينما كان الشعر هو الطريقة التي فكّرتَ فيها عندما كنتَ تقرأ أو تكون مستقلّاً عن الذات المنمّشة". إذاً، الشعرُ ليس مجرَّد قصيدة تُكتب بل هو طريقة حياة تنظر من خلالها إلى العالم.

في مقالة أُخرى تحمل عنوان "عن تعليم الشاعر"، من الكتاب نفسه، تقول: "إنّ الخبرة الأساسية للكاتب هي العجز... الكرامة في حياتهم، باعتقادي، من خلال التوق، وليس الهدوء بأحاسيس الإنجاز... بل بالعمل، والانضباط، والخدمة".

أخاف من تأثير الجائزة على حياتي اليومية وحياة من أُحب

أشارت الأكاديمية السويدية في إعلانها عن فوز غليك إلى استيحائها الأساطير الكلاسيكية التي يمكن رؤية تأثيرها في معظم أعمالها، ووَصفت صوتها بـ "الصريح والمتصلّب"، مضيفةً: "في قصائدها تستمع النفس إلى ما تبقّى من أحلامها وأوهامها، ولا يُمكن أن يكون هناك من هو أشدُّ منها في مواجهة أوهام الذات".

خلال خمسين عاماً من النشر، منذ أن نشرت ديوانها الأول بعنوان "باكورة" عام 1968، أصدرت غليك 12 مجموعةً شعرية وكتابَين تضمنّا مجموعة مقالات. ويُشير عددٌ من النقّاد إلى أنه، وعلى الرغم من تنوُّع أعمالها ومواضيعها مِن الطفولة والعائلة إلى مواضيع تُبحر فيها في العوالم السفلى، وأُخرى مستوحاة من الأساطير، كما المواضيع الفلسفية التي طغت على مجموعاتها الأخيرة، إلّا أنّ هناك ما يُوحّد كل تلك الأعمال على الرغم من اختلافها الشديد، وهو قدرتها على "تبسيط" وتوضيح أشياء معقَّدة لتضعها في قوالب شعرية مليئة بالصُّوَر.

في قصيدتها التي تحمل عنوان "الذكرى الأُولى"، تُحاول أنا الشاعرة فهم معنى جُرحٍ في الطفولة ومحاولة انتقامها من والدها؛ إذ تقول: "جُرحت منذ زمن بعيد. عشت/ لأنتقم لنفسي/ من أبي. ليس لما كانه/ بل لما كنتُه: منذ بداية الزمن/ في الطفولة، حسبت الألمَ/ يعني/ أنّني لم أُحَب/ يعني أنّني أحببت". ("عجلة مشتعلة تمرّ فوقنا"، ترجمة سامر أبو هواش، "منشورات الجمل" و"كلمة"، 2014).

ولكن من أين نبدأ عندما نريد أن نقرأها إن لم نعرف أياً من أعمالها؟

"لا توجد مجموعةٌ محدَّدة"، تقولُ لويز غليك مجيبةً عن هذا السؤال الذي طرحه صحافيٌّ من مؤسَّسة "جائزة نوبل"، ثم تُردف: "إنَّ مجموعاتي الشعرية مختلفةٌ جدّاً عن بعضها البعض، ويمكن أن تبدأ من أيّة مجموعة... لا أنصح بقراءة مجموعتي الأُولى إلّا إذا كان القارئُ يريد الشعور بالازدراء. ولكن أحبُّ أعمالي الأخيرة، ويُمكن البدء منها ربما".

وحول معنى الحصول على "نوبل للآداب"، تقول: "لا أدري... لا يزالُ الخبر جديداً بالنسبة إليّ، ولا أدري... الفكرة الأولى التي جاءت إلى رأسي أنّني سأخسر الكثير من الأصدقاء لأنَّ الكثير منهم كُتّاب، ولكن لاحقاً فكّرتُ في أنّ ذلك لن يحدث.... طبعاً الحصول على الجائزة شرفٌ عظيم، ولكن هناك من حصلوا عليها ولا أقدّر أعمالهم، وآخرون حصلوا عليها وأحبُّ أعمالهم... أخاف من تأثير ذلك على حياتي اليومية وحياة من أُحب؛ فالهاتف لم يتوقّف عن الرنين".

المساهمون