في خريف 2018، كانت لوحة "الفتاة والبالون" معروضة للبيع في مزاد "سوثبيز"، وحين انتهت العملية وبات سعر اللوحة 1.4 مليون دولار، دخل العمل الفنّي في عملية إتلاف ذاتي أمام ذهول الجميع. كان صاحبه، الفنان مجهول الهوية، بانكسي، قد زرع فيها آلة لتمزيق الورق مخبأة داخل الإطار. لعبةٌ جديدة من ألعابه انتقد من خلالها المنظومة الرأسمالية. كان وقتها ينتقد رأسمالية الفن رأساً، واعتبر حركته "صفعة" مدوّية في وجهها.
لكن رأسمالية الفن يمكن أن تستفيد من تحوّلات الفن. فما لم يخطر ببال بانكسي وملايين المتابعين هو أن تظهر اللوحة مجدّداً وأن تُعتبر آثار التقطيع فيها جزءاً من العمل الفنّي ذاته. بل أكثر من ذلك، بات سعر اللوحة أكبر وأكبر، وهو ما يُنتظَر من حملة الدعاية التي أطلقتها مؤسّسة "سوثبيز" والتي جاء فيها أن المزاد سينطلق بسعر 5.5 مليون دولار، وأن موعده سيكون في منتصف تشرين الأول/ أكتوبر المقبل.
إذا كان عنوان لوحة بانكسي "الفتاة والبالون"، فإن العمل الذي سوف يُعرَض للبيع قريباً يحمل عنواناً جديداً: "الحب في سلة المهملات". هكذا يبدو أنّ كلّ شيء قد تغيّر، من بُنية العمل إلى العنوان، وصولاً إلى السعر، وهو ما يفتح على أسئلة وإشكاليات جوهرية حول الفنّ: هل تمكن نسبة العمل إلى بانكسي؟ ثمّ أليس بانكسي فناناً مجهول الهوية، فكيف نُسند له الأعمال، وكيف يصل سعرها إلى ملايين الدولارات لأنّها من توقيعه؟
تحوّلات الفن جعلتْ من إتلاف اللوحة عملاً فنياً جديداً
لا شكّ أن السعر الجديد يجد مقوّمات ارتفاعه من كون العمل لبانكسي، وأكثر من ذلك، لتلك اللوحة بالذات التي سبق وأن أتلفت نفسها، فهي باتت بفضل تلك الواقعة العجيبة من أشهر لوحات الفن الحديث، بل إن بعض النقاد اعتبرها جزءاً من أهم عمل فنّي شهده القرن الحادي والعشرون، وهو مشهد إتلاف اللوحة لنفسها بُعيد بيعها في المزاد.
مع العرض الجديد للعمل الفنّي، يبدو ما حدث مثل جزء من عملية إنتاج "الحبّ في سلة المهملات"، وكأنّ لوحة "الفتاة والبالون" قد جرى تطويرها، وبالتالي فإن سعرها سيرتفع بالتأكيد. لكن ما دخل هذه الشهرة الإعلامية التي تقف فوقها اللوحة اليوم مع القيمة الفنية، أم أنّ الأمر يُختزَل في القيمة التجارية وحدها، بشكل صريح وفجّ؟
كان بانكسي قد نشر مقطع فيديو يفسّر فيه لعبته بعد "صدمة" إتلاف اللوحة لنفسها 2018. كان الفيديو يُظهر كيف تتمزّق اللوحة بالتدريج إلى منتصفها تقريباً، وكان هو يعلّق قائلاً: "ها هي تضيع... تضيع... ضاعت". اليوم يتبيّن بانكسي أنّ لوحته لم تضِعْ، بل إنها عمل فنّي جديد أكثر تغلغلاً في المنظومة الرأسمالية وأكثر خدمةً لها.
حتى أعماله الغرافيتية التي تنتقد النزعة الاستهلاكية وغيرها من مظاهر الرأسمالية، ها قد صارت جزءاً من دائرة الاستهلاك ومن الآلة الضخمة للرأسمالية هي الأخرى. بانكسي ذاته، كاسم، بات علامة تجارية تدرّ المرابح ليس فقط لصالح المزادات، إذ إن بعض أعماله الغرافيتية جرى اقتلاعها من حيطانها وبَيعُها.
ربما يأمل البعض أن يكون الفنان مجهول الهوية قد أخفى في جُعبته لعبة جديدة قد تجعل من الموعد الجديد لبيع العمل الفني موعداً جديداً من "الضحك على المنظومة". في هذه الحالة، سنتأكّد من أنّ رهانات الفن قد دخلت مرحلة جديدة، وأنّ الجمهور أيضاً بات ينتظر من الفنان ما لم يكن ينتظره من قبل. لكنّ الأهمّ هو أنّ بانكسي قد نجح في تحويل المعركة الخفية بين شريحة من الفنانين الثوريين والنظام العالمي إلى العلَن؛ أخرج المعركة من فضاء المفاهيم والتنظيرات إلى سلسلة من الفعل وردّ الفعل.