لا يكاد يخلو مَبحث مُعاصرٌ، في فُنون الثّقافة اللغويّة، من الإشارة إلى "لسان العَرب" لابن منظور (1232 - 1311) مَرجعًا لغويًّا، التفّ حولَه العُلماء. وفي السنوات الماضية، ارتحل هذا المرجعُ إلى رَحبات الفضاء الافتراضيّ، بعد أن رُقْمِنت كلّ كلماته، ممّا كثّفَ العودةَ إليه لشرح المعاني وتَحقيقها أو للتذكير بما كان لمفرداتنا المُعاصرة من جذورٍ عَفا عليها الزّمن. لكنّ وراءَ هذه البداهة قصّة رجلٍ وكتابٍ، حَريّةٌ بأن تُستعاد.
كان الرّجلُ مُغرمًا باختصار المُطوّلات، صبورًا عليها، يتناول بفِكره التوليفي أيّ واحدٍ منها فلا يتركه إلّا وقد استوى كتابًا مُعجِبًا، بعد أن يُعمِلَ فيه يدَ التشذيب والتهذيب. فقد تمكّن، بِجَلَده، من اختصار كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصبهاني، و"العقد الفريد" لابن عبد ربّه، و"الذخيرة" لابن بسّام، و"مفردات" ابن البيطار، وغيرها... حتى أنّ ناقلي سيرته، وقد ذُهِلوا بقُدرة الرجل على التلخيص والاختصار، نَسبوا إليه خمسَمئةٍ من المُختصرات، وهذا من المبالغة، بلا شكٍّ.
ذات يومٍ، قرّر أن يجمعَ ما تناثر من كُتب اللغة وأن يرتّب موادّها، فانتقى منها أمّهاتِها وطفقَ ينظم محتَوياتها. وقد اختار أن يعتمدَ منهجَ الجوهريّ (940 - 1003)، صاحبِ "الصحاح"، في تنضيد الكلمات، بحسب أواخِرها، تباعًا إلى أوائلها، مُفرِدًا لكلِّ حَرفٍ بابًا، يَسوقه فصولاً، ويَرمز إليها بأولى الحروف من كلمات كلّ بابٍ، وهو مَنهج شديد التعقيد والتجريد، وُضع للمُتخصّصين ويأنَف منه الطلبة المبتدئون.
لم يكتف بجمع المادة، بل ناقش وحقّق ما ورد فيها من آراء
ما يعنينا هنا، في سبيل استكشاف صورة المثقف - اللغوي آنذاك، هو كيفية حصوله على الكُتب المَخطوطة، وقد كانت وقتها عزيزةً نادرةً، علاوةً على كونها ثَقيلةً ضخمة، يَعجز الواحد عن حَمْلها، فكيف بقراءتها ونَسخها والتصرّف في مُتونها اختصارًا وتهذيبًا؟ كما يعنينا التفكير المعمّق - ضمن منظور التاريخ الثقافي للمعاجم الذي نَقترحه - في طُرُق انتقال تلك المخطوطات الثقيلة وأنماط سيَرانها بين الناس، مَشرقًا ومغربًا.
فلو أخذنا، على سبيل المثال، المَصادر الخمسة التي اعتَمدها صاحب "اللّسان"، وتفحّصّنا جذورها الجغرافيّة، لرأينا مدى اتّساع حَجم التبادل الفكريّ الذي كان يجري بين مَراكز الثقافة الإسلامية إبّان العصر الوسيط: "فتهذيب اللغة" للأزهريّ (895 - 981) يعود إلى خُراسان، و"المُحكم" لابن سيدَه (1007 - 1066) كتابٌ شاع في ديار الأندلس، و"الصّحاح" للجوهري حُرّرَ بين بَغداد ونيسابور، و"حاشية الصّحاح" لابن بَرّي (1105 - 1187) وُضعت في القاهرة، و"النهاية في غريب الحديث" كَتبها ابن الأثير (1160 - 1233) في المَوصل... ولا ندري كيف استجلب ابن منظور نُسخَها، وأيَّ المراكب اتّخَذَتها تلك الكتب حتى تَصل إليه. ولكنّ الأكيد أنّ الضاد كانت هويّةً جامعة، لا تعترف بالحدود ولا العُصور، أو هكذا نظرَ إليها الشيخ اين منظور.
ثم ها هو يغوص في كلّ موادّها التي تتجاوز الثمانين ألفًا ويرتّبُها جميعًا حسب نسق صارمٍ، كأنما يتبع جداولَ رياضيّاتٍ، لا تخطئ ولا تتخلّف. والعَجبُ كيف له إيجاد الوَقت الكافي بحَصر "كلام العرب الذي لا يُحيط به إلا نَبيّ"، كما قال حكيم المَعرّة أبو العلاء. والصّعوبة الكبرى، التي يُفترض أنه واجَهها وتغلّب عليها، هي غياب حركات النَّقط والإعْجام من الغالبية العظمى لتلك الكلمات، إذ لم تكن مُتون المعاجم مُشكَّلَةً وتَعسُر قراءتها، دون كدِّ الرَّويّة، وتقتضي جهودًا معرفيّة مُضنية، لا سيّما وأنّ حالات الإعراب لا تخضع إلى ناموسٍ مطّردٍ وأنَّ الأمرَ فيها يتّسع، لا إلى غايةٍ، وأنّى له أن ينضبطَ بقانون. ومع ذلك، أبْدع الرّجل في ردّ كل نظيرٍ إلى نظيره وإلحاق كلّ كلمةٍ بمُشاكِلَتِها حتّى أتى كتابُه مرجعًا مضبوطًا لا يعتريه خَللٌ رغم اتساع تصاريف الكلام وتشعّب دروبه.
ولم يكتف الرجل - كما هو شائع - بنقل مضامين المصادر الخمسة ووضْعها كما هي، مادّة إثر مادّةٍ، شأن النسّاخ، بل كان يناقش ما وَردَ فيها من الآراء ويتعقّبها مخطّئًا بعضَها، ومُصوّبًا ما ضَعفَ منها أو مُرجِّحًا. تارةً يُعمل مَلكَتُه اللغوية، كما سمّاها مواطنه ابن خلدون، وتارةً ينشر من معارفِه الموسوعيّة في الفقه وعلم الكلام والحديث والأنساب ما يُحقّق يه كلّ معلومةٍ ويتأكّد من وجاهتها ومطابقتها لما جاء في الأمّهات.
كاد "اللسان" أن يبقى أثراً لولا الأديب السوري يوسف خياط
وقد تجاوز هذا اللغويّ، الذي عاش بين طرابلسَ الغرب والقاهرة، الحدودَ اللسانية المَحضة للتعريف المعجميّ، وخاض في معتركٍ فسيح من المَعلومات التي تشمل حياةَ العرب في جزيرتهم، البادية والحاضرة، وما أنتجوه فيها من أشياء المادة وأنْظار الذهن وما صاغوه عنها من أمثال وأقوال. فكانت كلّ مادة عبارة عن قصّةٍ مصغّرة تَسرد مسيرةَ كلماتٍ وتعرض سلسلة إحالاتها على جوانب ثريّة من مغامرة العَرب في التاريخ، بِصَحراءَ لا تَنتهي منها الكثبان.
إلا أنَّ هذه النزعة العقلانيّة، اللافتة باطّرادِها وتماسكها، قابَلَها - وهذا من الغريب - أمران، قلّما التفتَ إليهما الباحثون في سيرة الرّجل، مع أنّهما في مُقدّمة "اللسان" ظاهران دامِغان. أولّهما الفصل الذي خَصّصه لتفسير الحروف المُقطعة الواردة في بعض سُوَر القرآن، وفيها التَحفَ ابن منظور لباسَ المُفسّرين وأورَدَ أقوالَهم ورجَّح بين خلافاتهم، وعَلّل البدْء بمثل هذا الفصل بسَعيِهِ وراء "بَركة كلام الله، قبلَ البَدء بكلام الناس". والثاني تخصيص بابٍ "لألقاب الحروف وطبائِعها وخواصّها"، ذَكَر فيه ما للحروف، حسب تَصوّرات كانت سائدةً في القرون الوسطى، من آثار "الأعمال العظيمة وأنواع المعالَجات وأوضاع الطِّلِسمات ونَفعها الشّريف وخصوصيّةٍ بالأفلاك المُقدّسة"، والكلامُ اقتباسٌ من مُقدّمته، ممّا يَشي بوجود رؤى سحْريّة اقترنَت باللغة العربية ورَبَطَتها بهالات من القَداسة والأسطرة والسّحر، وهي منها بَراء. وبعد سنواتٍ من الجمع والترتيب، استوى اللسان ثم غاب في متاهات ستّةٍ من قُرونِ الركود.
وكاد "اللسان" أن يبقى أثَرًا من عيون التّراث، تُحفةٌ تُستطرف ولا تُستخدم، لولا أن سَخَّر الأديب السوري يوسف خَيّاط (وُلد عام 1927)، في عَصرنا، نَفسَه لإعادة ترتيب المادّة الضخمة التي احتواها، على حسب أوّل حرفٍ من المادّة المجرّدة: ثلاثيّة أو رباعيّة، بعد أن أخْرجه، بمساعدة نديم مرعَشلي (1926 - 1999)، من رَميم المعاجم، فَصار المرجع الرئيس وأتيحت كنوزُهُ للطالبين. ثم أضاف له حياةً جديدة عبر تلك التكملة، الواقعة في جزء كاملٍ يشمل المُفردات العلميّة المستحدثة، ويغطّي مئات المفردات المولدّة في قطاعات الطبّ والاقتصاد والنبيت والوحيش، وكان ذلك سنة 1950.
ننظر اليوم، فنرى أنّ التهيّئات العالقة بالضاد ما تزال ساريةً في بعض العقول، تُعرقل التعاملَ الموضوعيّ معها، وتَحصرها في دوائر المقدّس والقََصَص التأسيسيّ، فضلاً عن تَمجيد إيديولوجي يُجمّد تطوّرَها الاجتماعيّ ويَقرنها بالدلالات البدويّة، وجلّها رَهين الصّحراء وأشيائها. ومع ذلك، تبقى قيمة "لسان العرب" فيما ينطوي عليه من طاقات توليديّة لضاد المستقبل، وما يتصوّن عليه من دلالات الماضي.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس