على عكس ما يُتصوَّر، يُعدّ أدب الطفل من أعقد النصوص كتابةً وأدقّها بناءً. تبدأ الصعوبات من تخيُّر المفردات والعبارات والتراكيب التي تتلاءم مع المستوى الذهني للناشئة، الجمهور المباشر لهذه النصوص، ثم من تضمين القيم الأخلاقية والوطنية التي تُباطن هذه الكُتب والتي تودُّ السلطة أن ينشأ عليها اليافعون. وهكذا، فالإشكال الأول في إنجاز هذا الأدب هو هيمنة البُعد الأخلاقي عليه واشتغالُه كقَيد مُستَبطنٍ، يَفرض منظومة أيديولوجيّة تُحرّك شخصيات الكون السردي أو تمثّل غاياتٍ تُحقَّق في نهاية الحبكة، مثل انتصار الخير على الشرّ ونيل الجزاء العادل. وهو ما يضعنا أمام تحكّمٍ بنيويٍّ بين أدب اليافعين والأخلاق، بخلفيّتها الدينية وحتى الغيبية.
وأما ثاني هذه المُعضلات فصُمود الأبنية اللغويّة المُنحدِرة من السجلّ الكلاسيكي الذي باتَ جلّهُ خارجًا عن الاستعمال. وقد اختلف علماء الألسنية وعلماء التربية حول جدوى إدماج مثل هذا الأبنية في كُتب الأطفال لأنّها تَخلق لديهم ضربًا من الانفصام؛ بسبب انفصالها عن الواقع وابتعادها عن المألوف لديهم من الألفاظ والمفاهيم. وتَحضر في الذهن أعمال أحمد شوقي (1862 - 1932) الذي وجّه إلى الأطفال بعض الأهازيج، وكامل الكيلاني (1897 - 1959) الذي صاغ قصص "السندباد البحري" و"من حياة الرسول" ثم عليّ الحديدي وسليمان عيسى وغيرهم كثر، إذ كانت اختياراتُهم اللغوية منشدّة إلى الحقل الكلاسيكيّ بذريعَة ضرورة تمتين المستوى التعبيري للأطفال عبر استلهام النصوص القديمة.
من جهة المضمون، يحقّ أن نتساءل عن جدوى الاعتماد اليوم على الأساطير وقِصص الحيوان والبُطولات الخرافيّة، ليس بسبب طبيعتها المُتخيَّلة، بل بسبب ما قد تُسفر عنه من إبعادٍ للطفل عن واقعه اليومي ومَدّه بموارد لا تقوى على منافسة وسائل التواصل الاجتماعي وقنوات الصور المتحرّكة وشاشات السينما، لأنّ إغراءَ هذه الأخيرة أقوى بكثير من كلمات مرقومةٍ في كتاب.
جملة أو صورة يمكن لهما أن تحطّما نفسية الطفل ونموّه
تفتقر هذه الكتابات إذن إلى الواقعيّة وتُحيل على عوالمَ لا صلةَ لها البتّة بمحيط الطفل المُعاصِر واحتياجاته النفسية والعاطفية ومتطلّبات كلّ عَتَبةٍ من عَتبات تحوُّله، فهي قصص مُكرَّرة، غالبُها معروف يتسنّى للطفل حتى أن يتخيّل نهايتَها قبل تمام المطالعة، وقد تكون مستوحاةً من بيئات أجنبيّة يقع تكييفُها، وحتّى تشويهها، مما يضعها في قالَبٍ غير متجانس مع انشغالات اليافع. فمن مزالق هذا الأدب اللجوء إلى الترجمة التي تَكشف للطفل أجواء غريبة عن حسّه وعواطفه، وموضوعات قد تكون خطِرةً على نموّه مثل قصص الجوسسة والتنجيم والسحر الأبيض والأسود وأجواء المدن الغربيّة وأعيادها (وأشهرها البابا نوال أو سانتا كلوز) وهو ما من شأنه أن يضعه في كون مغايرٍ تمامًا لما تعوّد عليه، وهذا بقطع النظر عن عجز الترجمة عن توفير المقابلات الأسلوبيّة والثقافيّة المناسبة والاستعاضة عنها بما يشوّه طبيعةَ النصّ - الهدف. ولا ننسى هنا أنّ لكلِّ مُجتمعٍ تَصوّرَه عن الطفولة، الذي يقوم على جملة من البُنى التحتيّة المادّية كالمدارس ورياض الأطفال، وعلى مواردَ ماليّة وقانونيّة يختلف حجمها من بلدٍ لآخَر.
وقد ثبت أنّ الأدبَ الموجّه للأطفال والقريب من واقعه له فرصة نجاحٍ أكبر، كما هو الحال مع تجربة الألغاز البوليسيّة التي ألّفها الكاتب المصري محمود سالم، حيث يتماهى الطفل القارئ مع أبطالٍ هم أيضًا أطفالٌ يعملون على حلّ الألغاز بالاعتماد على الذكاء والربط المنطقي للأحداث "المغامرون الخمسة" ولذلك، حرص المؤلف على اعتماد أسماء واقعيّة للأماكن (حيّ المعادي أساسًا) ليضمنَ أكبر قدرٍ من التّماهي.
تجب الاستنارة بما في علم النفس والتربية من نظريات
وتحتلّ قضية اللوحات التزيينيّة والرسوم المُصاحبة لهذه النصوص حيّزًا مهمًّا في هذا التساؤل بسببٍ من مَرجِعيّتها وعدم مواكبتها للمحيط البصريّ الذي صار الأطفال العرب يتوفّرون عليه. فرغم التحوّل الجذريّ الذي شهده هذا المحيط، لا تزال صور بعض الشخصيّات تعتمر العمائم وترتدي جلابيب القرون الوسطى في قطيعةٍ تامّة مع الأشكال العمرانيّة والأنظمة السيمائيّة الجديدة التي تتحكّم في عالم اليوم، مثل طريقة الارتداء وهيكل المُدن وترتيبها العمراني.
وهكذا، تظلّ "متعة النصّ" من أعقد المسائل في هذا الجنس الأدبيّ لأنّ الغاية من قراءة اليافع له هو التسلية، في ذات الآن الذي يتغذّى فيه خيالُه ووجدانه. وأمام التحدّي الفعليّ الذي تفرضه الألعاب الرقميّة وجاذبيّة الشاشات بأنواعها، بات من الضروريّ لأدب الطفل أن يحافظ على قدرته الذاتيّة على اجتذاب جمهوره الصغير وتحفيزه على مواصلة القراءة من خلال مضمونٍ مُسَلٍّ وأسلوب ساحرٍ يسافر بخيال الناشئ ويجعله ينشدّ إلى الكتابة الأدبيّة.
ومما يزيد القضيّة عسرًا أنّ كتّابَ أدب الطفل غالبًا ما يعملون مُنعزلين. فهم لا يعتمدون على الخِبرة التي يمكن أن يوفّرها مثلًا علماء النفس والاجتماع والتربية، وهم أقرب إلى المعرفة العلميّة بنفسيّة اليافعين وبتأثير الصور والكلمات في تطوّرهم الوجداني والعرفاني، فربَّ جملة أو صورة أو حتّى كلمة يمكن أن تُفضيَ إلى تحطّم تلك النفسية أو إلى تشكّلها بطريقة تُعرقل نموّها. وهكذا، لا يستنير هذا الأدب بما استجدّ في علم نفس الطفل من النظريّات، رغم نسبيتها، والتي من شأنها أن تضيءَ العديد من الخَبايا النفسيّة. كما لا يلاقي هؤلاء الكتّاب نفسَ التشجيع والشهرة والدعم من قبل السلطات الثقافيّة ولا من قبل النقّاد ووسائل الإعلام، كأنّما هم مؤلِّفون من درجة ثانية، لا يستحقّون ما يحظى به زملاؤُهم "الأدباء" الآخرون، رغم أنّهم يؤدّون نفس الوظيفة الجمالية. ومن جهة أخرى، يخضع هؤلاء الكتّاب إلى درجة رقابة ربّما أعلى بسبب حساسية هذه المرحلة واعتبارها رهانًا حكرًا على الدولة، وهو ما يجعل هامش الحرّية الإبداعية لديهم محدودًا بالنظر إلى ضِيق الآفاق الفكرية واللغوية التي يتحرّكون فيها.
إنتاج أدبٍ للطفل أبعد من خيار فردي، لأنه "مسارٌ" يجب أن يتوفّر على خَلطة سحرية بين التسلية واليُسر وقِيم الأخلاق دون السقوط في الوعظية الساذجة ولا السردية المُبسّطة والخرافية. والهدف الرئيس منه هو الاستثمار في الطفل وتنمية مواهبه العرفانية والوجدانية. تَحدٍّ كبيرٌ يقتضي المرورَ من أسلوب التلقين إلى بثّ روح الابتكار والتحليل، والانتقال من مفهوم التأديب العموديّ إلى الحوار الأفقيّ بين أطراف العَمَلية التربويّة. ولذلك لا بدَّ من تظافُر أهل القلم مع ذوي الاختصاصات في العلوم الإنسانية لتقديم تصوّراتٍ عامة حول طبيعة هذه النصوص ووظائفها وتأثيراتها مع الحصول على دعم فعلي من مؤسسات الدولة وأجهزتها دون رقابة ولا تسلُّطٍ، على أمل أن نجد التوازُن المَنشود في نصوصٍ سهلةٍ ممتعة، أعجزتْ كُتّابًا كبارًا مثل نجيب محفوظ، وهو عملاق السرد، أن يخوضوا فيها.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس