عُرِف عن الأرجنتيني بورخيس دفاعُه عن فكرة طريفة، مَفادُها أنَّ البشر جميعاً يؤلِّفون كتاباً واحداً هو "كتاب البشرية"، وأنه كان يرى أن لا داعي للتأسُّف على ضياع مكتبة الإسكندرية، ولا ضرر في ضياع بعض الكتب، لأنّ كُتباً غيرَها ستَظهر وستُعوِّضها، بتأليف كُتّاب آخَرين لكُتب ستقوم مقامَها.
ولا يخفى أنّ هذا الوعي الأدبي، عند بورخيس، يَسعى إلى الترويج لموقف نقدي يرى الكتابةَ سيرورةً لا تعترف بالتوقُّف، وأنَّ ممكنها هو الانفتاح على الآتي، فالكِتاب عقِب صدوره يشرع - مثل الماء المتدفّق - في شقّ مَسيره المتواصل، ممّا يُحدِث تحوُّلات في ما حولَه وفيه، تجعله في أحيان كثيرة مختلفاً عن حاله التي كان عليها لحظة انطلاقه.
يخرج الكِتاب إلى الوجود، فيبدأ خطوته الأُولى على درب الحضور، بإقبال القرّاء والنقّاد عليه، ليشرعوا في محاورته، وليُدشَّن التفاعُلُ معه في مقالات عنه، أو مُحاضَرات تتناوله، أو في استشهادات بما ورد فيه، في حامله الورقي أو الشفهي أو الرقمي، ليُصبِح بالفعل أثراً مفتوحاً، وفق تعريف أومبرتو إيكو، ينخرط في سيرورة تجعل منه حالةً في استئناف دائب؛ لأنّ الكتابة بطبيعتها تتّجه إلى المستقبل، في سعي حثيث إلى عدم التكرار الميكانيكي لِمَا أُنتِج سابقاً.
الكتابة للترجمة تصرِف فكرة الاستئناف عن أصلِها المتداوَل
ويبدو أنّ تصريف هذا الرأي في تقاليد الكتابة العالَمية كان سابقاً على تنظير بورخيس، وأنّه اتّخذ تجلّيات ذات أشكال متنوّعة، منها ما يتّخذ مَظهراً مباشراً، ككتب الشروح الأدبية التي اهتمّت بشرح مؤلَّفات أدبية ودينية وغيرها، ومنها ما انشغل بإتمام أعمال مؤلِّفين سابقين، كالسلسلة الأندلسية، تلك التي دشّنها ابن الفَرَضيّ بكتابه "تاريخ علماء الأندلس"، واستأنفها ابن فرتون، وابن بشكوال، وابن عبد الملك المراكشي، وابن الزبير.
لقد نبّهنا بعض الأدباء إلى أنّنا لا يُمكننا أن نقرأ الجديد الخالص أبداً، لأنّ منسوباً مهمّاً جداً من القديم يحضر بالضرورة في كلّ جديد، فتَكون للكتب، على هذا الأساس، شجرة نسب، ممّا يؤيّد فكرة أن يكون اللاحق منها استئنافاً لسابق ضمن سيرورة التتابع.
ويجد هذا الطرح سندَه عند الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو، الذي تكشف أعمالُه عن نسَبٍ بورخيسي واضح، كقوله في كتابه "في جوّ من الندم الفكري": "ألاحظ أنّ القرّاء بصفة عامّة يعتقدون أنهم يعرفون مضمون 'ألف ليلة وليلة'، فلا يرون ضرورة لقراءتها، ولا سيما الترجمات، وهذا اعتقادٌ مجانب للصواب، فكلُّ ترجمة لـ'ألف ليلة وليلة' نصّ مستأنف، يجوز اعتباره إلى حد ما نصّاً أصليّاً".
يصوغ كتّابٌ عرب نصوصاً تستجيب للذائقة الغربية أساساً
يلفت كيليطو انتباهَنا، في النص أعلاه، إلى الأهمّية الخاصة التي تحظى بها النصوص المترجَمة ضمن الأدب العالمي، بما لها من موقع مخصوص بصفتها نشاطاً قرائيّاً، فهي في تقديره قراءة، وهي في الوقت ذاته إبداع لامتزاج صوت المؤلِّف الأصل وصوتِ المترجم فيها، ولتمثيلها لفكرة الاستئناف لأصلها؛ لأنها في ذاتها فَهمٌ وتأويلٌ، وهي إذ تَتَحقّق نصّاً في لغة أُخرى تَنقلب إلى أصل بدورها، وإذا تكاثرت الترجمات لنصّ بعينه، فالأكيد أنّنا سنكون مع أصول متعدّدة، ستغدو هي الأُخرى مشاريع قابلة للاستئناف إلى ما لا نهاية.
المُشوِّق لدى كيليطو، المتميّز بمَكره النقدي اللطيف، هو أنّه يُنبّهنا في "لن تتكلَّم لغتي" إلى ظاهرة غريبة تخصّنا نحن العرب، بقوله: "صار الأديب العربي، بصفة شعورية أو لاشعورية، يُدخل الترجمة في حسابه، الترجمة بمعنى المقارنة، الموازنة، أو التحويل من أدب إلى أدب".
ويعني ذلك أنّ قصدية التحويل، أي الاستئناف، غدت هاجساً لدى الكتّاب العرب المعاصرين، الذين أصبحوا يُفكِّرون في العبور إلى الثقافات الأُخرى، وهم بصدد تأليفهم لكُتبهم، أو حتى قبل تأليفها، من خلال الرهان على قارئهم في غير لسانهم الأصلي، وعلى اختيار صياغة نصوص تستجيب للذائقة الغربية أساساً، ممّا قد يَصرِف فكرة الاستئناف عن أصلِها المتداوَل.
* أكاديمي ومترجم من المغرب