كاتب من العالم: تومّازو دي ديو

كاتب من العالم: تومّازو دي ديو

02 يوليو 2023
تومّازو دي ريو
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع كاتب من العالم في أسئلة عن انشغالاته الإبداعية وجديد إنتاجه وبعض ما يودّ مشاطرته قرّاءَه. "علينا أن نفكر في الشعر كوسيلة لتطوير حساسية الإنسان تجاه "الآخر"، حتى تجاه أنفسنا"، يقول الشاعر الإيطالي لـ"العربي الجديد".



■ كيف تقدّم المشهد الأدبي والثقافي في بلدك لقارئ لا يعرفه؟

- المشهد الأدبي في بلدي ثري للغاية ومتعدّد الأصوات. في الوقت نفسه، هو مشهد شديد الانقسام: هناك جدران خفيّة تفصل مجتمع الشعر عن مجتمع النثر، والصلةُ بين الكتابة المعاصرة وعالم الأكاديميا واهية. أخيراً – وكما هي الحال في البلدان الأخرى – هناك الكثير من القمامة التي تُنشر وتحظى بالرّواج. مع ذلك، يُنشر الكثير من الكتب العظيمة كل عام، ويُقام العديد من المهرجانات والقراءات الأدبية التي تحاول ربط الأبحاث الأدبية بعامة الناس. يجب علينا جميعًا التفكير أكثر بهذه القوّة من الأسفل.


■ كيف تقدّم عملك لقارئ جديد، وبأي كتاب لك تنصحه أن يبدأ؟

- أنا في الأساس شاعر: كاتب يبحث عن ماهية الشعر. لا أعتقد أن كلمة "شعر" تعني "شيئاً" بعينه، إنّما هي تجربة يمكن أن تحدث من خلال اللغة. الشعر حالة "كثيفة"، بالمعنى المادي للكلمة (مثل الحالة الغازية أو الصلبة)؛ حالةٌ تصل إليها اللغة عندما يتم حرقها بدرجة حرارة عالية بما يكفي لتآكُل تصوّراتها النمطية والكشف عنها. أقترح البدء بأحدث مجموعة شعرية نشرتُها، بعنوان "أردوري" (دار "نينو أرانيو"، 2023)، حيث يمكن للقرّاء أن يتابعوا قصّة شخص يُدعى أردوري (Ardore) من يوم مماته إلى يوم ميلاده.


■ ما السؤال الذي يشغلك هذه الأيام؟

- العالم هو "القضية" التي تشغلني: في كل مكان أنظر إليه أجد الرعب والألم والظلم. الجنس البشريّ في حالة كارثية. من أسباب ذلك افتقارنا إلى التعاطف: البشر غير قادرين (بما يكفي) على الشعور بما يشعر به الآخرون. وبكلمة "آخرين" أعني أيضاً غير البشر، من حيوانات وعناصر غير عضوية. الأجهزة التكنولوجية التي نستخدمها جميعاً لا تساعد، بل هي في الواقع جزء من المشكلة. يتمحور الشعر أيضاً حول التعاطف: فهو يفسح المجال للتماهي مع مشاعر انتابت إنساناً آخر في زمن آخر. علينا جميعاً أن نفكر في الشعر كوسيلة لتطوير حساسية الإنسان تجاه "الآخر"، حتى تجاه أنفسنا.

الكتابة هي إيجاد توازن لغوي بين عنصرَي الأُلفة والغرابة

■ ما أكثر ما تحبّه في الثقافة التي تنتمي إليها وما هو أكثر ما تتمنى تغييره فيها؟

- من الصعب القول. الثقافة الإيطالية بناءٌ حديث للغاية، وأتمنى لو يكون هذا البناء مختلفاً قليلاً: أي أقل فاشية وأقلّ محافظة وأقل أبويّة. أعتقد أن أهم شيء بالنسبة لي هو اللغة الإيطالية: فقد أُنشِئَت قبل وجود إيطاليا كأمّة وتشكلت على مدى قرون من قبل الشعراء (دانتي أليغييري على رأسهم). أحياناً، عندما أكتب وأتحدث، يذهلني الثراء العميق لهذا الجهاز التاريخي ودائم التحوّل، وقدرته على تشكيل الحوارات والتعابير. من الجميل أن أعرف أن الكثير من الناس قد ساهموا – حتى بدون وعي منهم – في صقل الكلمات على الهيئة التي تخرج عليها الآن من بين شفَتَيّ.


■ لو قُيّض لك البدء من جديد، أي مسار كنت ستختار؟

- لم أندم على أي خيار اتخذته: أنا راضٍ جداً عن المسار الذي سلكته، وأعتقد أنني محظوظ للغاية حتى الآن. لكن لو سنحت لي فرصة أخرى، لدرستُ المزيد من الموسيقى: أعتقد أن العيش كموسيقار كلاسيكي، محاط بالموسيقى ومشغول يومياً بإنتاجها، هي أفضل حياة يمكن للكائن البشري أن يعيشها.


■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟

- أذكر مقابلة مع ليليانا سيغري، واحدة من آخر الإيطاليين الذين نجوا من معسكرات النازيين، والتي ما تزال على قيد الحياة حتى اليوم. قالت سيغري مرّة إن أكثر ذكرياتها إيلاماً عن فترة اعتقالها ونقلها إلى معسكر أوشفيتز هي عدم اكتراث جيرانها وزملائها في المدرسة. كانت في الثالثة عشرة من عمرها عندما قُتِل جميع أقاربها. أتمنى أن يكون لدى الناس وعي أكبر بأفعالهم، فأثرُ اللامبالاة هائل. كل واحد منا قادر على تغيير العالم كل يوم، لو أولينا المزيد من الاهتمام فحسب.

الصورة
تومّازو دي ريو - القسم الثقافي

■ شخصية من الماضي تودّ لقاءها، ولماذا هي بالذات؟

- أود أن أقابل الشاعر اللاتيني فيرجيل. فقد كان من أروع عباقرة الشعر في كل العصور، ونحن لا نعرف عنه سوى القليل، بل نكاد لا نعرف عنه شيئاً تقريباً: أتمنى لو أفهمُ شخصيته بشكل أفضل.


■ ما هو، في اعتقادك، أكبر تحدٍّ لحرية الكاتب والكتابة في العالم اليوم؟

- من الصعب الإجابة عن هذا السؤال. أعتقد أنه كلما كانت مشكلةٌ ما تلامس حياة الكاتب نفسه، زاد الاهتمام الأدبي وزادت القدرة على أن يلامس عملُه الآخرين. لا أعتقد أنه من المفيد للكتّاب أن يكرسوا أنفسهم للتحديات المجرّدة والعمومية. التحدي الأكبر هو الاستمرار في التركيز على مشاكل محددة وملموسة يواجهها الكتّاب، لها علاقة بأجسادهم وحياتهم بشكل مباشر. هذا هو التحدي: ألا يتشتت انتباهك بتلك القضايا العمومية التي لا تعدو كونها إنشاءً.


■ ما هي قضيتك وهل يمكن أن تكون الكتابة قضية بذاتها؟

- الشعر ليس إيديولوجياً بالنسبة إلي، بل يتعلق بكثافة اللغة بشكل رئيسي. كذلك لا أعتقد أن الموضوعات مسألةٌ بالغة الأهمية في الشعر: فهي مجرد جزء من المشروع. لذا فإن كل واحد من أعمالي مختلف جداً عن الآخر. في السنوات الأخيرة، مثلاً، انشغلتُ بالعلاقة بين الصوَر والشعر. أنا مهتم بما يحدث في المساحة البينيَّة، حيث يتمتّع القارئ والكاتب أيضاً بالحرّية – وهو أمرٌ مثيرٌ للبحث فيه. 

العيش كموسيقار كلاسيكي هي أفضل حياة يمكن لإنسان أن يعيشها

■ "الأدب العالمي يكتبه المترجمون"؛ إلى أي درجة توافق على هذه المقولة وإلى أي درجة كتبك المترجمون؟

- لا أعتقد أن هناك فرقاً كبيراً بين الكتابة والترجمة: فهما مترادفتان تقريباً، إذا اعتبرنا أن الأدب يحاول ترجمة ما لا تصنعه الكلمات باستخدام الكلمات. هذا هو جوهر الممارسة الفنية. لذلك، أعتقد أن ترجمة الأدب هي مجرّد "تخصيصٍ" داخل مجال أكبر هو فن الكتابة. عندما أكتب أشعر أنني أُترجم وعندما أقوم بالترجمة أشعر أنني أكتب.


■ كيف تصف علاقتك مع اللغة التي تكتب فيها؟

- ليست علاقة طبيعية، حتى عندما أكتب بلغتي الأم. دائماً ما يتم ربط الكتابة بالتقاليد الأدبية والذاكرة الثقافية. لذا فإن الكتابة وسيلة لربط نفسي بأكثر جذور قصتي الشخصية عمقاً، وكذلك بالآخر الذي ألتقيه هناك في الأسفل، والذي هو ذكرى كل الشعراء الذين قرأتُهم يوماً، والذين ساهموا في تشكيل لغتي اليوم. الكتابة هي إيجاد توازن لغوي بين عنصرَين: الأُلفة والغرابة.


■ هل يمكنك تسمية مؤلف منسي أو غير معروف من ثقافتك ترغب في أن يقرأه العالم؟

- كليمنتي ريبورا شاعر معروف هنا في إيطاليا، ولكنه ليس مقروءاً أو مترجماً أو موضع نقاش كما ينبغي. وُلد في ميلانو، وشارك في الحرب العالمية الأولى، ثم توقف عن كتابة الشعر، تماماً (مثل رامبو)، قبل أن يصبح كاهناً مسيحياً. كتب في الجزء الأول من حياته بعضاً من أعظم وأقوى قصائد عصره.

الصورة
تومّازو دي ريو - القسم الثقافي

■ لو بقي إنتاجك بعد ألف سنة، كيف تحبّ أن تكون صورتك عند قرّائك؟

- لم أفكّر بذلك أبداً! في الوقت الحاضر، يبدو الأدب بالنسبة إليّ تجربة هشّة لا أظن أنها ستصمد في المئة عام القادمة... ولكن على أي حال، إذا كان لا بد لي أن أُجيب، فإني أودّ أن يتذكرني قرّاء المستقبل كشاعر لطالما أحسّ بأنّ الكلمات ليست كافية.


■ ماذا تقول للقارئ العربي الذي قد يكتشف عملك اليوم؟

- أنا مهتمٌّ جداً بما يمكن للقارئ العربي أن يجده في شعري، أكثر من أي وقت مضى. فالفصل الثاني من مجموعة "أردوري" مستوحى ممّا حدث في القاهرة مع الباحث الإيطالي الشاب جوليو ريجيني، وموته المروّع الذي ما يزال قيد التحقيق. لكن بعيداً عن ذلك، أظن أن هناك قواسمَ مشتركة بين الشعر العربي والإيطالي أكثر ممّا قد يبدو لنا للوهلة الأولى. فكلاهما لديه تصوّر عن اللغة بوصفها تقليداً ضارباً في القِدم وممارسة رفيعة، وأن اللغة في جوهرها مسألة سياسية. آمل أن تُتاح لي فرصة للتعرّف إلى المزيد من الشعر العربي والتبادل معه.



بطاقة

Tommaso Di Dio شاعر إيطالي من مواليد 1982 في ميلانو، حيث يعيش ويعمل. من مجموعاته الشعرية: "نحو النجوم الجليدية" (2020)، و"تسعُ شَفرات لازوردية تلمعُ عبر الزمن" (2022)، و"أردوري" (2023). ترجم إلى الإيطالية مجموعة "الربيع وكلّ شيء" (2020) للشاعر الأميركي ويليام كارلوس ويليامز، وهو يعمل حالياً على مجموعة مختارة من قصائد ديلان توماس. قام حديثاً بإصدار "مختارات من الشعر الإيطالي المعاصر" (2023).

 

المساهمون