سُمعت، في الفترة الأخيرة، خطابات منتقِدة لتنظيم قطر كأس العالَم، ودعواتٌ لمقاطعتها على أفواه ساسة ألمان وفرنسيين وغيرهم. وبدافع الفضول، أنجزت لائحة بأهمّ "الحُجج" التي بُنيَ عليها هذا الخطاب الشّائع اليوم لدى بعض السياسيّين الأوروبيين. وقد أبانت المراجعة السّريعة لهذه "البراهين" أنها تنحصر في ثلاثة (تشغيل عمّال آسيويين في ظروف سيّئة، وتبذير الطاقة، والتضييق على النّساء والمثليين)، وهي ادّعاءات يمكن مناقشتها في سياق خليجي وعربي وعالمي.
لكن المسكوت عنه فيها هو المرجعيّة الاستشراقيّة، ذات النظرة التفوقيّة، التي لا تقبل بأن يكون للجنس العربي، ولا سيما عرب الخليج، الكفاءة على تنظيم تظاهرة عالميّة بمثل حجم كأس العالم، تنظيم يقتضي درجة عالية من العقلانيّة والتخطيط والصّرامة.
إذ لا يزال المخيال الأوروبّي، عمومًا، يعيش على صورة قوامها أنّ العرب "بدو"، لا يمتلكون الإمكانات العقلانيّة اللازمة لتنظيم مثل هذه الفعاليات العالميّة، في استمرار واضح لفكرة أنّ الشرقيين لا يملكون سوى "خيال حالِم"، وليس لهم كفاءات تحليليّة، كما كان يؤكّد أرتير دي غوبينو (1816 - 1882) وأرنست رينان (1823 - 1892)، في نهاية القرن التاسع عشر.
استمرار لفكرة أنّ الشرقيين لا يملكون سوى "خيال حالِم"
وتَشيع، من نفس هذا المخيال، فكرةُ الثّراء اللا-متناهي لدولة قطر التي تُختَزل، بمؤسّساتها وحكوماتها وكفاءاتها العتيدة، في مجرّد أمير قادر على أن يشتري كلَّ شيء بماله بمجرّد "أمرٍ عليٍّ" منه، في استدعاء فجّ لصورة خلفاء "ألف ليلة وليلة"، وما فيها من القصور والحور. ويغفل هذا الخطاب، عن سوء نية، ما جرى، طيلة سنين، من مسارات تشييد للبنى التحتيّة اللازمة لاحتضان مثل هذا الحَدث العالمي، وما تخللها من تهيئة للملاعب والطرقات والفنادق، وما سبق كل ذلك من تخطيط عقليّ دؤوب، على امتداد عقود، استفادت خلالها قطر من أحدث التقنيات العالميّة، وشاركت فيها عقولٌ عربيّة وأجنبيّة، مثل ما يقع في أيّة دولةٍ متطوّرة أخرى.
وأما دعوى الإساءة إلى العمّال الآسيويين، وفضلًا عن تهويلها وكونها تستندُ، والكلام لهم، إلى مجرّد أرقام وإحصاءات لا يمكن التحقّق منها، فما هي إلا استعادة لمخيال "الرقيق" وما كان سائداً من تمثلات استشراقية عن الحَريم والتصرّف في العبيد في قصور الخلفاء والأمراء. يتناسى هذا الخطاب ما فعله الغرب الأوروبيّ والأميركي تحديدًا بالأفارقة، وما بالعهد من قِدَم، من ممارسات استعباديّة يندى لها الجبين. كما يهوّل هذا الخطاب حوادث الشّغل، التي تقع لا محالة في أيّ مشروعٍ من هذه المشاريع الضخمة. ويكفي أن نستذكر مئات الضّحايا من الأصول المغاربية والأفريقيّة الذين قضوا أثناء بناء سكك قطارات الأنفاق في عواصم أوروبا.
وأما دعوى التّضييق على النساء فاستعادة فجةٌ للصّور النمطيّة، التي سادت في القرون الماضية، عن احتقار الشرقيين للمرأة وازدرائهم حقوقها، في حين يشهد التاريخ الثقافيّ، كما يؤكد الحاضر، على عكس ذلك، إذ تتبوّأ المرأة أعلى المناصب. مقولة التضييق على النساء والميز ضدّهن ما هي إلا تحويلة مخياليّة عن تشيئة المرأة في الغرب والاستغلال الجنسيّ الذي تتعرّض له فئات عديدة منهن في المجتمعات الأوروبيّة الراهنة، أقلّه ما يشاهد في إسراف اللافتات الإشهاريّة.
فما يُقال تبعًا عن هذه الثيمات الثلاث ليس سوى ترجمة لعَناصر بالية من ذلك المخيال الاستعماريّ الذي لا يزال يبثّ شحناته السلبيّة ويتسلّل إلى ثنايا الخطاب السياسي الراهن، فتُوظّف لتحقيق مكاسب حزبية رخيصة، ولا سيما في الحملات الانتخابيّة.
والجامع بين هذه الانتقادات رفضها تآكل التفوّق الأوروبي وانتهاء التّبعيّة العربيّة للغرب. أن يُنظّم بلد خليجي، مثل قطر، كأس العالم وفق أحدث المعايير العالميّة، يحطّم العديد من البداهات التي تعشّش في بقايا المخيال الاستشراقي رغم تفكك خطابِه المتجنّي الذي طالما غذّى هذه التمثلات. لا يرضى هذا المخيال بانهيار المسلّمات، فيظلّ يقاوم في تخبّط باحثًا عن أدنى ذريعة. فتصبح كلّ التعلات، بما فيها الأكثر تهافتًا، عناصرَ برهنة في الخطاب العام، تُستعاد وتوظّف وتُضخّم. ولكنها مجرّد أقنعة تتستر وراءها مبادئ الاستشراق القديم، يعود إلى القرون الثلاثة الماضية، بما فيه الحقبة الاستعماريّة البغيضة، في شكل رواسب متحوّلة.
ويمكن هنا استدعاء مقولة إدوارد سعيد عن "الغرب الذي ابتكر الشرق"، ليضع فيه كلّ سلبياته، فماضيه المظلم في تجارة المستعمرات ينفّس عنه بمقولة "العمال الآسيويين"، واستنزافه خيرات الدول المستعمرَة طيلة قرونٍ من النّهب المنهجيّ لثرواتها الطبيعيّة، تحت غطاء عقود فاسدة عَقدها قادة فاسدون، يغطّي عليها بحكاية "البيئة واستنزاف مواردها". وتشيئته جسد المرأة يُخفّف عنها بانتقاد وضعية المرأة في المجتمعات العربية، في عكس تامٍ للأدوار.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس