قمريات الأقصى.. دقائق من الهمجيّة تدمّر سنوات من الجمال

30 ابريل 2022
قَمَريّات الأقصى تُنير داخلَه (عاصم بهرواني، Getty)
+ الخط -

كم يتمنّى المرء، وهو يراقب المواجهة البطوليّة واليوميّة للمَقدسِيّين ضدّ الاحتلال الإسرائيلي وأدواته، أن يمتلك هذا الأخير، ولو لمرّة واحدة، عينين واعيتين، تتمعّنان قليلاً بواقع حاله الذي لا يحتكِم لشيء سوى البشاعة، ونظامها المنبتّ عن الإنسانيّة، ففي الإنسانية مسحة مِن تفهّم للجمال. بيد أنّ عيوناً فاجرة، ولا أقول عمياء، هي ما تتملّك وجود الصهيونيّة وهي ما تجعل الصراع معها خارج حسابات الصّلة بما هو إنسانيّ.

في مقاله الذي خطّه على صفحات "العربي الجديد"، قبل أيام، وحمل عنوان "الاحتلال كحرفة إزعاج"، يصفُ الكاتب الفلسطيني عاطف الشاعر تجربته بعد أن أُبعِد بقرار احتلاليّ تعسّفي عن بيرزيت التي كان طالباً في جامعتها، فلم يجد - قبل عودته إلى غزة - مقصداً غير الأقصى يطمئنّ إلى جماله، ويرتوي بمنظر جموعه نساء ورجالاً، وكان قد نال منه شيءٌ من حزن وتعب على الصعيد الشّخصي. 

تشفّ كلمات الشاعر عن تجربة حيوية تذهب في استحضار الجمال كلّ مذهب، إلّا أنّ المشهد الذي وصفه يبقى عامّاً، لذا وجدتُني أتتبّع الدّقيق منه، وأخبار المواجهات تتواتر لحظة بعد لحظة، وآخرها مواجهة بالغَ فيها الاحتلال بالدّناءة، باستهدافه تلك السنتيمترات الزجاجيّة الملوّنة التي درج المقدسيّون على تسميتها بـ"القَمَريّات"، إذ لم تسلم - على لطافتها ورقّتها - من همجيّة البشاعة الصهيونيّة بوصفها آلة عنفٍ صمّاء. 

قَمرياتٌ تسلّط ضوءاً على الذين اختاروا البقاء والمواجهة

"قمَريّات الأقصى"، لمَن لا يعرفها من أبناء المدن الإسمنتيّة، هي جزء أصيل من العَمارة الإسلاميّة، تمتزجُ في صناعتها الحِرفة اليدويّة بروح العراقة والانتماء. ويُقال إنّ جذورها تعود إلى اليمن قبل أربعة آلاف عام، بمعنى أنّ الحضارة تتصادى في كينونتها وتتعشّق، كما تُعشّق زجاجَها أيادي المقدسيّين اليوم، لا لتنير المُصلّيات بأنوار القمر أو الشّمس فقط - ومن هنا استقت اسمها - إنّما لتسلّط ضوءاً كاشفاً على كلّ الذين اختاروا البقاء والمواجهة، ولعلّها بالمقابل تُبهرُ أعيناً استمرأت عتمة كهوف الاستسلام والخوف. 
   
للقَمريّة الواحدة قصّة ورحلة ما بين التصوّر والتشكيل والاستواء، فهي ليست مجرّد نصف دائرة تعلو النّافذة، إنّما تبدأ حكايتها من العجينة الأوّلية التي تجمع الجصّ والماء ثمّ تؤطّر بألواح من خشب، وما إن تجفّ حتى تحفرُ عليها السكاكين الرسومات الفنّية، التي سيتسلّلُ الضوء منها لاحقاً، ومن ثمّ تبدأ مرحلة الطباعة والزخرفة وتركيب الزّجاج المعشّق والملوّن عليها.

ويستغرق كلّ متر مربّع منها قرابة 120 أو 140 ساعة من العمل والتّصميم، وهذا يعني أنّ النافذة الواحدة قد تستغرق من الوقت ستّة أشهر. ولكنْ، مقابل كل هذا المجهود والأصالة، لا يتطلّب الأمر من جنود الاحتلال سوى دقيقة واحدة، لتهشيم القَمريات وتكسير زجاج تعب المقدسيون في صنعه، ومزجوا عجينته بماء البلاد وعرق أهلها.

لم تكن الجمعة الثانية من رمضان (15 نيسان/ إبريل الجاري) هي المرّة الأولى التي تتصيّد بها بشاعةُ المستعمِر الإسرائيلي جمال القَمريّات، لترميها بالقنابل أثناء الاجتياحات المتكرّرة لباحة المسجد الأقصى. بل هو نزوع متأصّل تمكن العودة به إلى عام 1969 عندما أشعل مستوطن إسرائيلي من أصل أسترالي حريقاً في المسجد القبلي، الأمر الذي أدّى لتحطيم عدد من تلك القمريّات.

وفي العام الماضي إبّان هبّة أيار/ مايو ألقى العسكر الأحمق قنابله على المسجد، فكسروا عشرة من قمرياته السّت والخمسين، حقّاً لا قلوب في صدور هؤلاء الأوغاد حتّى نطالبهم بأسف على ما تعبت به الأيادي، ألم نقُل في بداية هذا المقال إنّه عدوّ منبتّ عن الإنسانية ونظامها. 

هو مُحترَف صغير ذلك الذي تبقّى من تراث الصّناعة كلّها، يقوم عليه عدد من المقدسيّين في أحد أروقة المسجد الأقصى، يصنعون ويجبلون ويعشّقون "القمَريّات"، حتّى أنّهم لا يستخدمون الكهرباء، ولا يعوّلون إلّا على سواعدهم، السواعد الفلسطينيّة الصّانعة للجمال والثّابتة أبداً بوجه الاحتلال وبشاعته.


* كاتب من سورية

المساهمون