ارتبط اسم إيفو أندريتش الكاتب اليوغسلافي (1892 - 1975) عند القراء العرب، بروايته الأشهر "جسر على نهر درينا" التي ترجمها سامي الدروبي عن الفرنسيّة، وطُبعت أكثر من مرة، بعد أن فاز مؤلّفها بـ"جائزة نوبل للآداب" (1961)، كما فتحت الطريق لترجمة بقية رواياته؛ "وقائع مدينة ترافنيك" و"الفناء الملعون" و"الآنسة"، سواء من الفرنسية أو من اللغة الأصليّة، التي ارتبطت بفترة انفتاح ثقافيّ بين يوغسلافيا السابقة والدول العربية ضمن حركة عدم الانحياز.
لكنّ الكتاب الجديد الصادر في عمّان عن "وزارة الثقافة" (2021)، لأندريتش "جسر على نهر جيبا وقصص أخرى" من ترجمة إسماعيل أبو البندورة، يُحيلنا إلى مجال آخر من إبداع الكاتب، يتمثّل بالقصص، كما تُحيل مقدّمته إلى أسئلة جديدة وإشكاليّة عن المؤلّف. وكان المترجم الأردني، الذي تخرّج من قسم العلوم السياسية في "جامعة بلغراد"، بدأ اهتماماته في الترجمة منذ عودته إلى الأردن. فترجم أوّلاً "قصص يوغسلافية" لأندريتش و ميشا سليموفيتش (1992)، ثم ترجم روايات عدّة من الأدب البوسني الحديث والمعاصر، كرواية "المرجة الخضراء" لأدهم مولى عبديتش، و"القلعة" لسليموفيتش، و"الشهيد" لزلهاد كولتشانين، و"القُناق" لكامل سياريتش.
وتجدر الإشارة، هنا، إلى أنّ أندريتش كان قد بدأ شاعراً، واشتَهر كاتباً قصصيّاً بعد أن نشر عدة مجموعات قصصيّة خلال سنوات 1920 - 1936 التي كان يعمل خلالها في وزارة الخارجية، قبل أن تستغرقه السياسة ويتولّى عام 1935 الدائرة السياسيّة في الوزارة ويصبح نائب وزير الخارجية عام 1937، ثم سفيراً ليوغسلافيا لدى ألمانيا النازية في 1939. وبعد الاحتلال الألماني ليوغسلافيا في نيسان/ أبريل 1941، عاد إلى بلغراد واعتكف في بيته متفرّغاً للأدب، وبالتحديد لرواياته الجديدة، إلى أن انتهى الصراع في الشوارع بانسحاب القوات الألمانية وتولّي الحزب الشيوعي للحكم في تشرين الأول/ أكتوبر 1944، فتكيّفَ بسرعة مع الحكم الجديد الذي لم يكن رحيماً مع "أعداء الشعب" من أنصار "يوغسلافيا المَلكيّة" التي كان أندريتش أحد نجومها.
تحيل مقدّمة مترجِم الكتاب إلى إشكاليات وأسئلة جديدة
وكانت "مؤسّسة إيفو أندريتش" المعنيّة بتراثه الأدبي في بلغراد، قد عمدت عام 2012 إلى إعادة توزيع وإصدار قصصه في مجموعات جديدة حسب موضوعاتها، وليس كما نشرها أندريتش: "قصص بلغراد" و"قصص سراييفو" و"قصص تركيا" "قصص الرهبان" و"قصص عن النساء" و"قصص عن المدن" وغيرها. وهي التي اختار منها المترجم أبو البندورة 32 قصّة ما بين الاسكتشات (صفحة أو صفحتين)، وما بين الأقصوصات والقصص التي تحتوي نواة رواية مثل قصة "جسر على نهر جيبا" التي حملت عنوان هذه المجموعة، والتي نشرها أندريتش في عام 1925.
هذه القصص، التي تحتاج إلى صبر أكبر لقراءتها، ممّن اعتاد على روايات أندريتش، تُكرِّس الصورة المعروفة عن أندريتش السياسي الذي يعرف كيف يستخدم موهبته الأدبيّة في استجلاء الشخصيات النمطية، واختيار الأحداث التي تكرّس صورة نمطية لوطنه الأم البوسنة؛ مصير أبناء البوسنة الذين اعتنقوا الإسلام وأصبحوا رهينة السلطة العثمانية حتى في أعلى مناصبهم، حال الصرب الأرثوذكس الذين بقُوا يحلمون باستعادة مجدهم في القرون الوسطى ويعملون على ذلك مع الإيحاء للسلطات بأنّ "ذلك من المستحيل" لكي لا تشكّ بهم، حالة العداء المزمنة بين المسلمين والمسيحيّين، وما تضخّه من مشاعر كره وترقّب للتخلّص من الآخَر كأنّ ذلك قدر البوسنة، الخ.
كلّ ما سبق يبدو في القصّة الأولى والأجمل "جسر على جيبا" أحدُ فروع نهر درينا، إذ اشتهر بالجسر الضّخم الذي بناه الصّدر الأعظم البوسنوي صوقولو محمد باشا، عند مدينة فيشغراد، وخصّص له أندريتش روايته "جسر على نهر درينا". وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ هذه القصة نُشرت عام 1925، يمكن اعتبارها نواة أو بروفة للرواية الأولى لأندريتش التي ستصدر عام 1945. ففي هذه الرواية يمكن اعتبار الجسر أحد أبطال الرواية؛ لأنّ الشغل الشاغل لأبناء المنطقة كان في كيفية السيطرة على الطبيعة الجارفة التي كانت تهدم كل جسر يبنونه إلى أن اهتم أحد أبناء المنطقة (الوزير يوسف باشا) وكلّف مهندساً إيطالياً ببناء جسر يصمد، ويذكّر الناس به.
كتب روايته الأشهر منكفئاً عن الحرب المشتعلة في بلغراد
وبالمقارنة مع الجسر الضخم عند مدينة فيشغراد، يبدو الجسر عند نهر جيبا متواضعاً جدّاً، إلى حدّ أنّه لم تتناولْه المصادر التّاريخيّة، فعوّض أبناء المنطقة عن ذلك بالأساطير، التي اختار إيفو أندريتش واحدة منها ليبني عليها هذه القصّة المتميّزة بتصويره لدواخل الشخصيات الرئيسية. وخاصة ابن البوسنة الوزير العثماني الذي أراد خدمة أبناء منطقته، والمهندس الإيطالي الذي أبدع في بناء جسر مقاوِم لتقلّبات الطبيعة، ولكنّه لم يعش ليتمتّع بالمكافأة الموعودة والشّهرة المنتظرة. ولدينا مثل ذلك أيضاً، قصة "صيف"، عن حملة قائد الجيش العثماني عمر باشا إلى البوسنة لفرض السلطة المركزية على بكوات المسلمين في منتصف القرن التاسع عشر، التي تحوّلت لاحقاً إلى رواية بعنوان "عمر باشا لاتاس" نُشرت بعد وفاة أندريتش بعامين عام 1977.
ومقابل الصورة النمطيّة السلبيّة للوجود العثمانيّ في البوسنة، نجد في قصص عدّة أيضاً، صورة نمطية سلبية للوجود النمساوي - المجري، مع تسريب إشارات تفيد بوجود فضائلَ له، كما هو الأمر، مع الوجود العثماني. ولكنّ الشيء اللّافت للنظر في هذه المجموعة، قصة "ذلك اليوم" التي تدور حول "حرب الأيام الستة"، خلال تشرين الأول/ أكتوبر، في شوارع بلغراد بين القوات النازيّة وقوات "البارتيزان" التابعة للحزب الشيوعي اليوغسلافي. فقد نجح أندريتش في "جسر على نهر جيبا" في أن يبني مخيّلة جميلة بالاستناد إلى أسطورة شعبية متداولة عند سكان المنطقة، بينما كان الكاتب خلال "حرب الأيام الستة" معتكفاً في بيته ببلغراد، وهو يكتب روايته "جسر على نهر درينا" دون أن يهمّه ماذا يحدث في الخارج ومن سينتصر في هذه الحرب الضارية.
في تلك اللحظات، عندما كانت المعارك تدور من شارع إلى شارع ومن عمارة إلى عمارة، اقتحم أحد مقاتلي "البارتيزان" - أصبح لاحقاً كاتباً صحافيّاً معروفاً - الشقّة التي كان يعيش فيها أندريتش ليُفاجَأ بشخص يجلس إلى الطاولة، وهو يكتب على أوراقه تحت قصف المدافع وأزيز الرصاص. ولمّا عرفه فوراً سأله بدهشة عن هذه اللّامبالاة فأجابه أندريتش: "في السنوات الأربع، تحت الاحتلال الألماني، كان لي هدفان: أن أبقى حيّاً وأن أبقى إنساناً، أعتقد أنني حقّقت هذين الهدفين. الآن يأتي مجتمع جديد. إذا قبلني فسأمنحُه كلّ ما يمكن أن أقدّمه، وإذا لم يقبلني فإننّي ببساطة سأعيش ما بقي من حياتي".
تبدو هذه القصة نشازاً ضمن قصص أندريتش، أو محض محاولة منه لإثبات الولاء لحكم الحزب الشيوعي الجديد، بعدما شاهدَ ما حلّ بزملائه، من أنصار الحكم الملكيّ السابق، من تنكيل وسجن وإعدام باعتبارهم "أعداء الشعب". وفي المقابل كان أقطاب الحكم الجديد يقدّرون مكانة أندريتش الأدبية ويعتبرون انحيازه لهم مكسباً يدعم السلطة الجديدة يدعم سلطتهم. ومع ذلك، بقي رأس السلطة الجديدة (جوزيف بروز تيتو) على موقفه من الكاتب وماضيه في يوغسلافيا المَلكيّة، ولم يقابله إلا مُكرَهاً بعد فوزه بجائزة نوبل عام 1961.
وطالما أنّ الحديث عن يوغسلافيا الملكيّة (1918 - 1941) التي كان أندريتش من نجومها، فتجدر الإشارة إلى أنّه كان في شبابه من أعضاء "منظّمة البوسنة الفتاة" المدعومة من جهات نافذة في صربيا، لأجل الترويج لتوحيد الصِّرب في دولة واحدة، وهو ما كان يقتضي إشعالَ حرب مع النمسا وأخرى مع الدولة العثمانيّة. ومع اغتيال وليّ عهد النمسا، الذي نفّذه صديق أندريتش غفريلو برنسيب في 1914، واندلاع الحرب العالميّة الأولى، التي أدّت إلى انهيار النمسا وفتحت الطريق لتأسيس يوغسلافيا المَلكيّة؛ كتب أندريتش الشاب إلى السلطة الجديدة مُذكّراً بجهوده، وهو ما فتح له الباب للعمل في وزارة الخارجية عام 1920، وصولاً إلى منصب نائب وزير الخارجية في 1937.
في تلك السنوات بالذات كانت السلطات اليوغسلافيّة المَلكيّة منشغلة مع تركيا الكَماليّة في مشروع كبير لتهجير معظم المُسلمين من جنوبيّ يوغسلافيا إلى تركيا باعتبارهم من "الأتراك" الذين لا يمكن استيعابهم في الدولة الجديدة. وحول ذلك، صدر عام 2019 كتاب يتضمّن وثائق وزارة الخارجية اليوغسلافية الملكية (1922 - 1941) يتضمّن فيما يتضمّن توجيهات نائب وزير الخارجية إيفو أندريتش إلى الممثّليات الدبلوماسيّة حول تسويق هذه العملية التي كانت تستهدف التخلّص من حوالي ربع مليون مسلم في جنوبيّ يوغسلافيا، وهو ما سنعود إليه في مناسبة أخرى.
ويقود هذا إلى ما أورده المترجم أبو البندورة في مقدّمته حول تقبّل أندريتش في دول يوغسلافيا السابقة، حيث صدرت دراسات جديدة بيّنت انحيازه الأيديولوجي ضدّ المسلمين منذ أطروحته للدكتوراة "تطوّر الحالة الروحيّة في البوسنة تحت تأثير الحكم التركي"، التي كتبها بالألمانيّة وناقشها في "جامعة غراتس" (1924). ولكنّه رفض ترجمتها إلى اللّغة الصربوكرواتية حتى وفاته (1975)، إذ تُرجِمت ونُشرت بعدها لتوضّح الأساس الذي بنى عليه تصويرَه للأوضاع والشخصيّات في البوسنة، خلال الحكم العثماني. ولا شكّ في أنّ ما أثاره المترجم في مقدّمته مفيدٌ للقارئ العربي حتى يتفهَّمَ أندريتش بشكلٍ أفضل ويتعرّف على أسباب العزوف عنه في معظم دول يوغسلافيا السابقة.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري