قارّةٌ اسمها أدب الجريمة

07 أكتوبر 2021
ممثّل في زي شخصية المحقّق هركيول بوارو التي ابتكرتْها أغاثا كريستي، لندن، 2010 (Getty)
+ الخط -

الجرائم وقائعُ وأحداثٌ تملأ جزءاً أصيلاً ممّا يُسمّيه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو: Habitus، أيْ: مَجموع العادات والشعائر التي تتحكّم في النسيج المعيشي للأفراد. إلّا أنّ هذه الوقائع الإجراميّة لم تحتلّ، في عالم الخِطاب، المكانة التي تناسبها، وظلّت حبيسةَ النّظر القضائي ولغتِه التقنية، فهو الذي يعرض الوقائع عاضداً إياها بالأدلة ضمن سَرد رسميّ تحتكره السلطة القضائيّة، حيث يتولّى القاضي وفريقه من الكتبة، كتابة لائحة الإدانة وقراءتها... بما يشبه الحَكيَ الروائي.

وبمرور الوقت، استولت الجَرائد على الموضوع، ونشطت "الصحافة الإجراميّة" ضمن أقسام "الحوادث المختلفة"، وباتت تثير فضول القرّاء بما تُوظّفه من تقنيات الاستقصاء لتفسير ما يطلق عَليه: "مَناطق الظلّ" أيْ: الألغاز التي لم يتمكن القَضاء من حلّها. وذهبت بعض الصّحف إلى توظيف مفتّشين خصوصيّين من أجل إظهار ما خفيَ من تلك الحقائق أو إكمالها. 

ورغم أهمّيتها وشعبيتها، ظلّت هذه التحقيقات مُكتفيةً بمساحات صغيرة من الجرائد التي تستعيد من مصادرها بعضَ العناصر الجنائيّة، لا كلّها. ولكن بتعقّد المجتمعات وتشعّب اهتماماتها، بدأت تلك المساحة في الاتّساع. ولم يعد خبرٌ واحدٌ يوفّر الإجابة عن جميع الأسئلة (ماذا، من، أين، متى، لماذا)، ولذلك ظهرت نزعةُ كتابة مطوّلات صحافية حول الجرائم، كثيراً ما تُنشر في أعداد متلاحقة، ما يشدّ القرّاء للحكاية، ومن ورائها للجريدة.

بعد بداياته الصحافية بات أدب الجريمة مرتبطاً بالوسائط البصرية

كان لهذا الشّغف الجماهيري، خصوصاً في بريطانيا وفرنسا خلال القرن الـ 19، دورٌ في دخول الأدباء على الخطّ وإدراج أساليبهم الفنية في صياغة وقائع الجرائم. بل وبَدأوا يفكّرون في الخروج بنصوصهم من إطار الجريدة إلى كُتبٍ مستقلّة بذاتها، يجد فيها الكاتب مساحةً أرحب لذكر ملابسات الجريمة وتفاصيل المحاكمة. وهكذا، نَشأت قارّة أدبيّة واسعة من أبرز أسمائها آرثر كونان دويل وأغاثا كريستي.

وغالباً ما يظلّ الأسلوب في مثل هذه الكتابات مقيّداً بالضوابط الموضوعية، ومُراعياً لصدقية الأحداث، عاملاً على تتبّع الخطيّة الزمانيّة من خلال ما يُتاح من الملفّات والمستندات التي قد يُحصَل عليها بوسائل ملتويَة. وتكون النتيجة جنساً أدبياً بين السرد الواقعي والكتابة المتخيَّلة درَجَ النقّاد على تسميته الأدب البوليسي، إذا كانت الشخصية الرئيسية ضابط شرطة. ولكنّ إطاره النظري أوسع من ذلك ويُسمى أدب الجريمة إذا كان المحقّق - علاوة على رجل الأمن - محامياً أو صحافيّاً أو مفتّشاً خاصّاً. كذلك يمكن أن تغيب شخصية المحقّق تماماً ويسلّط المؤلّف الضوءَ على العالم البسيكولوجي للقاتل أو يضيء أغوار الضحيّة، كما فعل الكاتب الكولومبي غابريل غارثيا ماركيز في "قصّة مَوتٍ مُعلن".

وكما أوضح رولان بارت، فالقَصُّ مَلَكة إنسانيّة، يتمتّعُ الكلّ بها ويمارسها، ولذلك ما إن تنصب آلياته على وقائع الإجرام حتى تضيءَ جوانب من بسيكولوجية الحياة في تنوّعاتها، وقد يدفعنا سياق الجريمة إلى التفكير في ثوابت كثيرة كأنْ يتلاعبَ خيال المؤلف بالقارئ حين يجرّه إلى هوية قاتل يكون بريئاً في نهاية الحكاية، أو يكشف ملابسات تجعل تصرّفات القاتل مبرّرة. ولعلّ أقرب نماذج ذلك في ذاكرة القراءة العربية رواية "اللصّ والكلاب" لنجيب محفوظ. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذا الأثرَ قلّما دُرِسَ من زاوية أدب الجريمة، فهو مرّة ضمن تعبير اجتماعي، ومرّات رواية نفسيّة، أو هو عمل من أعمال الروايات الذهنية. وليس هذا من بِدَع الثقافة العربية، فمن المعروف أن الأمرَ ذاته حدث مع روايات الكاتب الروسي دوستويفسكي، فمن النادر أن يعتبر النقّاد "الإخوة كارامازوف" ضمن أدب الجريمة على الرغم من أنها تلبّي كلّ شروط هذا الجنس الأدبي. 

وكما خَلع هذا الجنس جلدَ الجريدة سابقاً، بدأ منذ منتصف القرن العشرين يميل إلى الشكل المَرئي، فتحوّلت معظم نصوص أدب الجريمة إلى أشرطة سينمائية ومسلسلات تلفزيونية. فتهافت المنتجون على شخصيات هذا الجنس مثل هركول بوارو، شارلوك هولمز وأرسين لوبين لتحويلها إلى مادّة استهلاكيّة وفنيّة لتزجية الوَقت، وهو ما من شأنه أن يخلق علاقة جديدة بين المجتمع وعوالم الجريمة، حيث تزدوج شخصيتهم وتنقسم إلى "المجرم الحقيقي"، الشخص الموجود في التاريخ، وصنْوِه المتخيَّل وهو يَنشأ ويتحرك فوق الشاشة وبين سطور السرد. إذا كان الفنان الذي يؤدّي دوره مقتدراً، ربما وصل إلى كسب تعاطف الجمهور معه ونزع سمات الشرّ عنه، بل وجعله مقبولاً محبوباً، وهذا من روائع الفن التي نجح فيها كبار الروائيين، ومنهم محفوظ ودوستويفسكي.

كذلك يمكن أن نلاحظ أن أدب الجريمة قد طوّر بعض مهارات الكتابة، ومنها القدرة على التشويق ودفع القارئ إلى قلب الصفحة كلّما فرغ من صفحة، وهو ما يعجز عنه كثير من كلاسيكيات الأدب، إذ تدور في معظمها حول القيَم الكبرى كالحبّ والنبل والتسامح. ومن هذا المنظور، فإنّ أدب الجريمة أقرب للواقع من الأدب بمعناه الأشمل، ولا سيما ذلكَ الذي تكرّسه المواد المدرسية. كذلك نجح أدب الجريمة في تطوير تقنيات مثل الوصف، حيث إنّ التحقيق يقتضي دقّة في نقل مشهد الجريمة، فمنها تخرج خيوط المادة السردية وإليها تعود.

في غياب المعنى تتحوّل الجريمة إلى عنف مجّاني يسيء إلى المشاهد

ومن سمات هذا الأدب قدرته على المحاكاة خلال تصوير مشاهد القتل أو المحاكمات، وهنا نقف على قدرة كتّاب أدب الجريمة على معالجة كل إشارة سكوتية أو قولية، فكلّ ملْمَح قد يكون كوداً يستحقّ التوقف عنده ضمن سيميولوجية شاملة تستدعي من القارئ انتباهاً لا تشترطه أجناس روائيّة أخرى مثل السرد التاريخي أو التعليمي.

وقد ازدهر أدب الجريمة في أيامنا حتى صارت كلُّ جريمة تهزّ الرأي العام في بلد مثل فرنسا مقترنةً باسم كاتب - من الصحافيين في الغالب - يدوّن وقائعها ويتخصّص فيها عبر ما يجمعه عنها من المعلومات وما يضيفه من نتائج التحقيق والتقصّي. ومن ذلك كتاب "Le 36" (في إشارة إلى رقم مركز الشرطة الباريسية)، الذي خصّصته باتريسيا تورانشو لسير السفّاحين، كذلك يمكننا أن نرصد شكلاً جديداً من كتب أدب الجريمة حين يُعهد إلى كاتب بتطوير سردية يَطرحها أحد الشهود، ومن ذلك كتاب صدر أخيراً بعنوان "باتاكلان: الأمل الذي يجعلنا نعيش"، حيث يقدّم الكاتب تيري بايار خدماته التحريرية لوالدَيْ ضحيّتين.

لا توجد مثل هذه الحيوية حول أدب الجريمة في البلاد العربية، ولا يعني ذلك أن الجريمة غير حاضرة في حياة الناس، وما أبعدنا عن هذا الرفاه! تتعلّق المسألة بقطيعة بين الأدب وحياة هؤلاء، فالرواية مشغولة أكثر بالحفر في العقد النفسية للمثقفين أو في قضايا عابرة مثل الهجرة والقمع السياسي، أمّا الجريمة، فهي عارضة لأنها ببساطة تقع على الأرض فلا تأتي ضمن أولويات المؤلّفين، دون أن يعني ذلك وجود استثناءات، كظهور جرائم ريا وسكينة في أكثر من عمل أدبي ومسرحي، أو ظهور مجرم عُرف بـ"شلّاط تونس" في الرواية والسينما.

لكن علينا الانتباه إلى تفاوت النسق بين حضور الجريمة في مرآة الكتاب وفوق الشاشة. ألم تُضاعف المسلسلات العربية من جرعة حضور الجريمة في الأعوام الأخيرة؟ ألا تستند إلى سيناريوهات جاهزة لا تلتفت إلى ينابيع الأدب؟ كذلك فإنها تقوم على كليشيهات معروفة في تصوير العنف، ما لا يقدّم للقارئ معنى. وفي غياب المعنى تتحوّل الجريمة إلى عنف مجانيٍّ، يسوءُ المشاهد ويسيءُ إليه.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون