عادل مقديش؛ أعتقد أنه أقدم اسم فنان تشكيلي رسخ في ذهني. في طفولتي البعيدة، أذكر روزنامة في بيت جدّتي، كانت تحمل رسومات عجيبة، ليست تلك الموجّهة لجلب انتباه الأطفال، هي خليط عجيب من العناصر المفلتتة من الزمن؛ ألوان زاهية مقذوفة في أماكن سحرّية شبه مظلمة، تسكنها شخصياتٌ تحمل أزياء وأغراضاً فريدة، أو تداعب آلات موسيقى، أو تجلس إلى رقعة شطرنج، وتتناثر حولها الزخرفة التي هي لا كلام ولا تصوير.
لم يحدث أن عدتُ إلى هذه اللحظات لتأمّلها إلا مع خبر رحيل عادل مقديش (1949 - 2022)، أمس الخميس. وجدتُ أنني ما زلتُ أحمل سحر تلك الصور في نفسي. لقد اختلطت بحكايات وخرافات كانت ترويها جدّتي، أنا الذي يعتقد أنه ينتمي لأحد الأجيال الأخيرة التي تقاطعت مع المفهوم التاريخي للجدّة؛ ذلك الخزّان العجيب من الحكايا المليئة بالأحداث الغريبة والتخويفات والأمثال التي تسرّب تمثّلات العالم وتورّثها.
أحاول أن أفهم كيف تنشأ هذه العلاقات بيننا وبين الصور؟ أتذكّر أن حنة أرنت قد سُئلت عن السبب الذي جعلها تواصل الكتابة بالألمانية فقالت: "هي اللغة التي أثثتُ بمفرداتها العالم". تلعب رسومات مقديش هذا الدور بشكل غامض في داخلي.
حين أعود إليها اليوم لا أستعيد نفس انبهاري الأول بها، وقوامُه عين طفل أقرب إلى صفحة بيضاء، لكنها تظل تطربني بتلاعباتها اللونية وتوازناتها الهندسية، وقولها لشيء عميق في الهوية التونسية كما لا تفعل تجارب فنية أخرى تذهب إلى التراث فتعيده حرفياً أو تقطع معه بحدّة.
كان يُفترض أن أقرأ أكثر عن هذه الخصوصية، لكن لم تعترضني مادة بحثية تغوص في مفردات عالم مقديش، إما لتقصير مني أو من عدم اهتمام نقديّ كاف. في النهاية، بقيت التجربة غامضة كالعوالم التي تطرحها. ولعلّني كنت أودّ الحفاظ على غموضها وعدم فكّ أسطورتها.