قد يكون جان جاك روسو أكثر فلاسفة الحداثة الذين يصعب الفصل بين ما أنتجوه من مؤلّفات وبين حياتهم الخاصّة. إذ بخلاف أغلب مُعاصريه وسابقيه من المفكّرين، بنى صاحب "العقد الاجتماعي" القسم الأكبر من مشروعه على أساساتٍ شخصية، مازجاً بين معيشه ورؤاه الفكرية، دون أن يتردّد عن الحديث بصيغة المتكلّم، وهو ما يهجره عادةً أكثر المفكّرين إلى صيغة "نحن" التي تسعى إلى "إخفاء" شخصية المؤلّف الخاصّة.
هذا التلازُم بين عمل روسو وحياته جعل من سيرته مفتاحاً أساسياً لفهم أعماله وتحليلها وتقديمها إلى القرّاء، وهو ما تفعله الباحثة الفرنسية نتالي فيرّان في كتابها "في مشْغَل جان جاك روسو"، الصادر حديثاً لدى منشورات "هيرمان" في باريس.
تنطلق المؤلّفة في مقدّمتها من اختلاف روسّو عن مُعاصريه في تنقّله الدائم، فهو، بخلاف كانط مثلاً (الذي عُرف بعدم مغادرته مدينته ومحافظته على نظام عملٍ بيتيّ صارم)، كان شديد الترحال، مكتفياً بالإقامات المؤقّتة في منازل أصدقاء له من ميسوري الحال، وهو ما يدفع فيرّان إلى القول بأن عنوان روسو الدائم كان يتمثّل في كتاباته، التي كانت مسكنه الحقيقي في ظلّ غياب مسكن ثابت.
تنتقل فيرّان بعد ذلك إلى علاقة الفيلسوف بفعل الكتابة نفسه، حيث مارسه كنمط عيش، بشكل يوميّ، محبّراً آلاف الصفحات طيلة حياته، وتاركاً العديد من المخطوطات التي لم يَنشر خلال حياته إلّا قسماً منها. كما تستعين برسائله، وبالروايات التي أوردها عنه مَن عرفوه، لترسم صورةً لمشغله الذي ترى أنه يشبه المشغل المثالي للكاتب، حيث تدور الحياة بأكملها حول فعلَي التفكير والكتابة، لا العكس.
يتوزّع الكتاب على أربعة أجزاء يضمّ كلٌ منها العديد من الفصول، حيث يتناول الفصل الأوّل النحو الذي ألّف روسو من خلاله كتبَه خلال تنقّلاته العديدة، محوّلاً تجاربه الخاصّة وملاحظاته الاجتماعية والسياسية إلى مدخل يومي للكتابة الفكرية؛ في حين تُخصّص الجزء الثاني لدراسة مخطوطاته الموزّعة في العديد من البلدان، ولا سيّما في سويسرا وفرنسا. ويفصّل الجزء الثالث في هذه المخطوطات عبر دراسة واحد منها، وهو مخطوط كتابه "هلويز الجديدة"، في حين تتوقّف في القسم الرابع والأخير لدى علاقة الفيلسوف بالمكتبات وحضوره في مؤلّفات الآخرين بعد رحيله.