من المعروف أنّ الدولة العثمانية برزت في شمال غرب الأناضول، وتوسّعت في أوروبا أوّلاً، حتى كانت إلى منتصف القرن الخامس عشر دولةً بعاصمة أوروبية (أدرنة) وغالبية مسيحية، ثم توسّعت لاحقاً في الجنوب ــ في إطار الصراع مع الدولتين الصفوية والمملوكية، وفي غرب المتوسط في إطار الصراع العثماني ــ الإسباني للسيطرة على حوض المتوسط، في الوقت الذي كان حُكم العرب يتلاشى في الأندلس. وعلى الرغم من أن الحركات القومية في البلقان قامت على تخيّل وتكريس عدوٍّ (هو الأتراك) لحشد المشاعر الجديدة من أجل قيام دولة قومية، مستلهمة حدودها من القرون الوسطى ــ وهو ما تحقّق مع تدخّل دولي (مؤتمر برلين، عام 1878)، ثم توسّع بعد حرب البلقان (1912 ــ 1913) التي أنهت فيه بلغاريا وصربيا والجبل الأسود واليونان الحكمَ العثماني في أوروبا ــ إلّا أن الصورة تغيّرت لاحقاً.
فبعد موجة النشوة بالنصر ــ التي انعكست على المؤرّخين وما كرّسوه، سواء في الكتب المدرسية أو في المؤلّفات الأكاديمية، بالاعتماد على المصادر المحلّية والمصادر الأوروبية ــ جاءت الموجة الثانية بعد الحرب العالمية الثانية لتحمل تقدّماً في الدراسات الشرقية والانفتاح على المصادر العثمانية لكتابة تاريخ مختلف عن فترة الحكم العثماني الطويل للبلقان.
أمّا الموجة الثالثة، فقد جاءت بعد سقوط حكم الأحزاب الشيوعية، التي كرّست ما يُسمّى "التاريخ الرسمي"، وأطلقت حرّية البحث الذي استفاد كثيراً من انفتاح مراكز الوثائق العثمانية في تركيا، التي انفتحت بدورها على دول البلقان في إطار المصالح المشتركة الجديدة. وهكذا، نجد الآن أفضل علاقة سياسية واستثمارات تركية في صربيا ذات الغالبية الأرثوذكسية، التي كانت في فولكلورها وأدبها وثقافتها وسياستها تعبّر عن العداء الصارخ للحكم العثماني (1453 ــ 1878)، وليس في البوسنة أو ألبانيا حيث الغالبية المسلمة!
اعتمد الجيل الأوّل من المؤرخين العرب على سرديات أوروبية
هذا التنوّع والتطوّر في النظرة إلى الفتح العثماني، وانعكاسهما الآن على العلاقات بين تركيا ودول البلقان، نجدهما أيضاً في العالم العربي ــ من المغرب إلى الكويت ــ الذي حكمته الدولة العثمانية بأشكال مختلفة، من الحكم المباشر إلى الحكم الذاتي الذي أقرّ حكم أُسَر حاكمة تعترف بالسيادة العثمانية. فلدينا، في دول المغرب العربي، مَن يعتبر الفتح العثماني تحريراً لهم من الحكم أو التهديد الإسباني لهم بمصير الأندلس، كما لدينا في المشرق (ولا سيّما في مصر وبلاد الشام) مَن يعتبر الحكم العثماني "استعماراً" باسم الإسلام.
ولكنْ، بالمقارنة بدول البلقان، بقي الجيل الأوّل من المؤرّخين العرب في غربة عن المصادر العثمانية، معتمداً على المصادر الأوروبية (الفرنسية والإنكليزية على وجه الخصوص)، سواء في تأليف الكتب المدرسية أو المؤلّفات الأكاديمية التي أصبحت تُدَرَّس في الجامعات الجديدة، ليكرّس بذلك صورة غير صحيحة أو غير دقيقة عن الحكم العثماني، في غياب المصادر العثمانية التي وثّقت لكلّ شاردة وواردة في البلاد العربية.
ومن ناحية أخرى، وبالمقارنة أيضاً بالبلقان، فإنّ الانتفاضات التي قامت ضدّ أنظمة الحكم الشمولية أو شبه الشمولية في العالم العربي (في تونس ومصر وليبيا وغيرها) لم تُنتج ما سبق أن حدث في البلقان: حرّية سياسية وحرّية بحث وانفتاح على دول الجوار وفق المصالح المشتركة، بل أنتجت حالة استقطاب واستعداء ضدّ كلّ ما هو عثماني وتركي، بدءاً من المقالات الصحافية والمسلسلات التلفزيونية، وانتهاءً بالمؤلّفات الأكاديمية، لتمثّل تراجعاً كبيراً قياساً بما أنتجه الجيل الثاني من المؤرّخين العرب.
في هذا السياق، كان الجيل الثاني من المؤرّخين العرب، الذي تخرج من الجامعات الأوروبية، قد اعتمد على سردية أوروبية مركزية وسوّقها في مؤلّفاته، في الوقت الذي كان فيه الباحثون والمؤرّخون الغربيون يكتشفون ــ منذ النصف الثاني للقرن العشرين ــ ما في الأرشيف العثماني من ملايين الوثائق التي تقدّم معطيات مهمّة عن الوضع الإداري والاقتصادي والاجتماعي للولايات العربية وغيرها.
أمّا في الجانب العربي، فقد كان المؤرّخون العرب في غربة عن الأرشيف العثماني، وكانوا يتحجّجون في ذلك بعدم معرفتهم للّغة العثمانية وصعوبة الدخول والوصول إلى ما يريدون في الأرشيف العثماني. لكنّ هذا الجيل لم يعدم مَن كسر هذا الوهم، مثل عبد الجليل التميمي، الذي استطاع الوصول إلى الأرشيف العثماني منذ نهاية الستينيات، وخرج بحصيلة سمحت له بأن يقدّم ــ في مؤلّفاته الكثيرة ــ صورةً مختلفة عن الحكم العثماني، منذ كتابه الأوّل: "بحوث ووثائق في التاريخ المغاربي" (تونس، 1972) وحتى "التبادل المعرفي والتفاعل السياسي بين إستانبول والمغرب العثماني وأوروبا، 1764 ــ 1892" (تونس، 2012).
في غضون ذلك، كانت تركيا قد تغيّرت منذ تولّي تورغوت أوزال لرئاسة الحكومة بين عامي 1983 و1989، ثم لرئاسة الجمهورية (1989 ــ 1993)، وانفتحت على العالم العربي. وقد انعكس ذلك على مرونة متزايدة في الأرشيف العثماني، الذي تُقدّر ممتلكاته بمئة مليون وثيقة. لكنّ الإقبال العربي على تركيا تركّز على السياحة، ولم يشمل الجيل الثالث من المؤرّخين العرب، مع بعض الاستثناءات، مثل فيصل الكندري، الذي قدّم سردية مختلفة عن علاقة الكويت بالدولة العثمانية بالاستناد إلى وثائق عثمانية تقول إن الشيخ مبارك الصباح ــ على الرغم من توقيعه لاتفاقية سرّية مع بريطانيا في 1899 تمنحه الحماية ــ بقي على مشاعره إزاء الدولة العثمانية، فبنى الجامع الحَميدي (نسبةً إلى السلطان عبد الحميد) في 1900، وبقي يرفع العلم العثماني حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى.
ثمة منشورات تكسر هذا الجفاء لكنها لا توزَّع جيّداً
ومع استمرار جفاء المؤرّخين العرب للوثائق العثمانية، بادرت المؤسّسة العلمية المعروفة باسم "إرسيكا" (مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية)، التي أنشأتها "منظّمة المؤتمر الإسلامي" عام 1980 في إسطنبول، إلى تنظيم ندوات ونشر مصادر عثمانية عن الولايات العربية في الدولة العثمانية. وتوّجت ذلك في عام 2009 بإطلاق مشروع "البلاد العربية في الوثائق العثمانية"، الذي تولّاه بكامله المؤرّخ المعروف فاضل بيات، وصدرت منه عشرة مجلدات حتى الآن، كان آخرها في 2020: "مسلمو الأندلس وحكومة فاس في القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي"، و"الكويت في الوثائق العثمانية، 1850 ــ 1900".
ومع هذا الكمّ الكبير من الوثائق التي نشرت لأوّل مرّة، لم يعد من الممكن أن تستمرّ صورة الحكم العثماني كما كانت عليه في الكتب المدرسية أو المؤلّفات الأكاديمية ــ دون أن يعني هذا أن يكون البديلُ تمجيدَ الحكم العثماني بطبيعة الحال ــ في ضوء المعطيات الإدارية والاقتصادية والاجتماعية التي توفّرها هذه الوثائق المنشورة الآن عن الولايات العربية في الدولة العثمانية.
وتكفي هنا الإشارة إلى المجلّدين الأخيرين، اللذين يكسران الصورة النمطية ويقدّمان فكرة واضحة عن الحكم العثماني للمغرب (حكومة فاس كما ترد في الوثائق) حتى عهد أحمد المنصور (1578 ــ 1603) وللكويت. فقد خاطب أحمد المنصور السلطانَ مراد الثالث بعد مقتل أخيه حاكم فاس الشريف عبد الملك، طالباً أن يعيّنه مكان أخيه، وهو ما وافق عليه السلطان. وأصدر الأخير حكماً في الثامن من آب/ أغسطس 1582 بتعيينه، مخاطباً إياه بلقب "جناب صاحب الإمارة، قوّام الإيالة، حاكم فاس مولاي أحمد"، وواعداً إياه بشموله بالرعاية السلطانية العثمانية.
وفي ما يتعلّق بالكويت، كشف المجلّد العاشر عن تمتّع البلد بحكم ذاتي يمثّله آل الصباح، الذي كان كلّ واحد منهم يحمل لقباً محلّياً (شيخ) ولقباً عثمانياً (قائمقام) حتى بداية القرن العشرين. ويكشف هذا المجلّد عن تعاون آل الصباح مع القوات العثمانية التي كانت تُرسَل أحياناً إلى المناطق المجاورة لملاحقة المتمرّدين على الدولة. وما يستحقّ الإشارة إليه هنا، أنّ السفارة الكويتية في أنقرة قدّرت للمؤسّسة إصدارها مثل هذا المجلد، وقدّمت دعماً مالياً لها.
مع هذا الكمّ الكبير من الوثائق العثمانية التي باتت متاحة بالعربية، والتي لم يعد في الإمكان تجاهلها في إعداد الكتب المدرسية وتأليف المنشورات الأكاديمية، يمكن القول إن الأمر لم يعد يتعلّق بغربة، بل بغفلة المؤرّخين العرب عن هذا المنجم المتاح الآن من الوثائق المتعلّقة بتاريخ بلادهم خلال الحكم العثماني.
ومع ذلك، لا بدّ من الاعتراف ــ مع كل التقدير لعشرات المجلّدات التي نشرتها "إرسيكا" باللغة العربية ــ بأن طريقة توزيعها تبقى محصورة جدّاً بعدد محدود من المعنيّين، مع عدم توافرها للبيع في المكتبات العربية. ولذلك يصبح من الضروري طرح نسخة إلكترونية على الأقل من هذه المجلّدات العشرة من "البلاد العربية في الوثائق العثمانية" لتكون متاحةً لكلّ المؤرّخين والمعنيين؛ والسعي إلى إصدارٍ جديد لها بالتعاون مع دور توزيع عربية توفّر هذه المجلدّات وغيرها من مطبوعات المؤسّسة القيّمة في معارض الكتب والمكتبات الرئيسية في العواصم العربية، حتى تكون متاحة للمؤرّخين والباحثين المعنيين بالوصول إلى صورة موضوعية أكثر عن الحكم العثماني للبلاد العربية الذي استمر حوالى أربعة قرون.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري