في متلازمة الاستبداد والهزيمة

في متلازمة الاستبداد والهزيمة

12 ديسمبر 2023
جانب من مظاهرة مُندّدة بالإبادة الصهيونية، لاهاي، 10 كانون الأول/ ديسمبر 2023 (Getty)
+ الخط -

أُمّة لا تُريد أن ترى وجهها في مراياها فتكسرها، ومراياها هي تلك النصوص التي كتبها مُفكّروها وشعراؤها وفنّانوها عن الاستبداد الحديث منذ قرنين؛ من الكواكبي وعبد الله النديم إلى نصوص الشاعر محمّد الماغوط الساخرة والعميقة، وما بينهما ممّا لا يُحصى من النصوص/ المرايا.

أُمّة لا تُريد أن ترى الاستبداد الذي حكم كلّ علاقاتها، ولا تُريد أن تعي آثار الاستبداد المدمِّرة على جميع الصُّعُد النفسية والثقافية والاجتماعية، وخاصّةً الاقتصادية. حاكم بلا رقيب هو مشروع سارق.

والناس تعتقد أنّ الديمقراطية هي حرية الكلام. ذاك أبسط مظاهرها. جوهر الديمقراطية الحقيقية هي مراقبة المال العام. من يُراقب قيس سعيّد أو السيسي أو محمّد بن سلمان في علاقتهم بالمال العام؟

وعلاقتهم بالبنوك المركزية هي علاقة أمراء القرون المُظلمة ببيت مال المسلمين.

باختصار، الاستبداد يُساوي شلّ وموت الأفراد والمجتمعات، وهذا العجز والشلل والتبلُّد الذي نشهده اليوم في عالمنا العربي إزاء إجرام الكيان الصهيوني الذي فاق الخيال، ليس سوى نتيجة مباشرة وحتمية لاستبداد دولة الاستقلال التي كانت فشَلاً مطلقاً، نرى نتائجه اليوم.

الاستبداد أشنع من الإعدام البيولوجي؛ لأنّ الاستبداد يقتل الإنسان من الداخل. 

وهنٌ في الساحات العربية بينما تشتعل عواصم العالَم

وهذا يُفسّر لك حالة الوهن والبرود والتبلُّد العربي إزاء كلّ هذا الفحش في التقتيل الذي تجاوَز كلّ الخطوط الحمراء المتخيَّلة وغير المتخيَّلة. وهنٌ وبرود ساد الساحات العربية مثل تونس ومصر والخليج والجزائر، مقارنةً باشتعال عواصم العالَم الكُبرى في القارّات الخمس.

وحالة التبلّد العربي هذه دفعت الرئيس الفنزويلّي نيكولاس مادورو إلى أن يهيب بالشعوب العربية أن تنزل إلى الشوارع في غضبة مدوّية... 

كان المجرم نتنياهو على وعي بهذا الجسد العربي البارد، وهو ما شجّعه على الإمعان في القتل التوراتي كما جاء في "سِفر حزقيال" الذي قرأه على الجنود قبل ذهابهم إلى غزّة... إنها دولة الاستقلال الاستبدادية التي غيّبت الوعي. 

وأدلى بورقيبة بدلوه، ولم يكن الرجل على وعي بحقيقة الاستعمار الاستيطاني التطهيري. كان يعالج الأمر كما لو أنّ الحركة الصهيونية هي صورة أُخرى للاستعمار الكلاسيكي كما وعاه في عشرينيات القرن الماضي عندما كان طالباً في باريس، وهكذا دعا الفلسطينيين في أريحا للاعتراف بهذا الكيان الذي لم يكُن يدرك أنّه كيان ديني بفترينا لائكية... وترك جيلاً يغطّ في غيبوبة تاريخية لا تنتهي...

واليوم، تجتمع بقاياه في "بلاتو" تلفزيوني لتُحدّد علاقة الغزّي بالصهاينة بأنها علاقة مَرضية، علاقة تحكمها "متلازمة ستوكهولم" حيث الضحيّة تتماهى مع الجلّاد؛ هكذا تجلّى لهم سلوك المقاومين الغزّيين مع أسرى الحرب الصهاينة. لم يُدركوا أنّه سلوك نابع من أخلاقية إسلامية يجهلها هؤلاء الحداثيون التونسيون، ومن حسابات سياسية وإعلامية يجهلها أيضاً هؤلاء الحداثيون التونسيون... 

يا سلام على الحداثة التونسية: الفدائي الغزّي الذي هزم أكبر جيش في المنطقة، أو ما يُسمّى بجيش الدفاع الإسرائيلي الذي هو في حقيقته جيش العدوان؛ وأيقظ الرأي العام العالمي على المأساة الفلسطينية، ورجّ خارطة الجيوبوليتيك في المنطقة التي كان لها تردّدات في العالم، وجاءت حاملة الطائرات الأميركية والأساطيل الفرنسية والإنكليزية لتحاربه. 

يُختزل هذا الفدائي الفلسطيني في التلفزيون التونسي إلى مجرَّد مريض مُصاب بـ"متلازمة ستوكهولم"، ولم يُدركوا أن المتلازمة الحقيقية التي يعيشونها، والمغيَّبة عن وعيهم هي متلازمة الاستبداد والهزيمة.


* شاعر ومترجم تونسي مقيم في أمستردام

موقف
التحديثات الحية

المساهمون