في غفلة منّا

11 أكتوبر 2021
باية محيي الدين/ الجزائر
+ الخط -

للتوِّ سقطت ورقة ميتة من شجرة في مكانٍ ما مِن العالم ولم يشاهدها أحدٌ من البشر...

للتوِّ قفز سرطان صغير على شاطئ رملي بلون الذهب ولم يشاهده أحدٌ...

للتوِّ سقطت قطرة مطر كبيرة فوق سِنديانة متأرجحة ولم يشاهدها أحدٌ...

كثيرة هي الأمور التي تحدث في هذا العالم بِلا شهود عيان. كثيرة هي الأمور التي تأخذ مجراها في هدوء وسكينة وعزلة، دون أن تستدعي انتباه شخص ما، أو تثير ضجّة الحاجة إلى حضور شهود مُدَجَّجين بكاميرات تصوير. هذه الأشياء تحدث كثيراً جِدّاً بلا جمهور، بلا عيون فضولية متابعة، ويكون ذلك في صومعة الخشوع المعتكف الذي يستحقّه الحدث، وهو أحياناً حدثٌ بسيط، عاديّ، ينتمي إلى دائرة الحياة الطبيعية للكائنات وإلى سيرورة وجودها على هذا الكوكب.

ما الغريب أو الاستثنائي في سقوط ورقة جافّة من غصن شجرة في فصل الخريف، دون أن يتابع سقوطها واحد من الناس؟ ما الغريب أو الاستثنائي في سقوط المطر في أعالي الجبال، أو في استقرار طائر على صخرة ما في مكان لا يوجد فيه بشريٌّ واحد؟ ما الغريب أو العجيب في تهادي الحصى على شاطئ مهجور بفعل مداعبة أنامل الموج المتراقص دون أن يكون محطّ أنظار الإنسان؟

بعيداً عن الشاهد البشري، المتفاعل عموماً مع حركة الطبيعة وجمال تقاسيمها ودقّة تفاصيلها، لا تثير هذه الأمور دهشة الطبيعة نفسها أو تعجبَّها، إنها فقط تحدث بتناغم مع المكان والزمان والقوى الحاضرة المتفاعلة.

الطبيعة في استغناء تام عن موافقتنا أو دهشتنا وتصفيقنا نحن البشر

قد ينعق غراب في حقل بعيد ولا يسمعه ويشاهده أحد. وقد تسقط كومة ثلج من قمّة جبل عالٍ في صمت الطبيعة المهيب. وقد تهتز أغصان الأشجار في أعماق الغابة بفعل الريح العاصفة ولا يلحظ ذلك أحد من الناس.

للطبيعة ومكوّناتها - مهما كان حجمها - حياتها الحميمية التي تجري بسلاسة كما النهر أو الغدير. أصغر الأشياء في عالم الطبيعة يعيش وجوده ويصنع لحظاته الفارقة دون صخب. تتأرجح الورقة المجعّدة ذات اللون النحاسي في الهواء، مُفارِقةً موقعها الأثير على غصن الشجرة، دون ضجة إعلامية أو منشور يبتغي صنع البوز (buzz). سقوط يتعالق بأذرع الجاذبية الشفّافة التي تسحب برفق الورقة إلى الأرض حيث تتوسّد التربة السمراء.

يحدث هذا في كل لحظة وفي أقلّ من اللحظة وفي كلّ وقت، في غفلة مِنَّا نحن البشر.

حياة الطبيعة بما فيها من مخلوقات لا تحتاج إلينا لتواصل مسيرتها البديعة. وتلك الأحداث البسيطة والدورية التي تتنقَّل فيها أشياء أو حيوانات من مكان إلى آخر وتلك اللحظات العظيمة التي تولد فيها كائنات نباتية أو حيوانية أو تفنى، في حالة استغناء تام عن موافقتنا أو دهشتنا وتصفيقنا نحن البشر.

الحياة أقدم منّا ظهوراً على كوكب الأرض بمراحل زمنية طويلة جدّاً، وهي أكثر تنوّعاً من أن يتم حصرها في النوع البشري، ورغم تطوّرها المدهش وذكائها المُميَّز لكنها أكثر تواضعاً منه. تاريخ الحياة حافل بالمحطّات والإنجازات قبل الوجود البشري، وهي لم تنتظر سماع التصفيقات كَيْ تضع لمساتها وألوانها المدهشة على جِداريتها فائقة الروعة.


* شاعرة من الجزائر

المساهمون