في سنوات بعيدة

11 ديسمبر 2022
زوران موسيتش/ سلوفينيا
+ الخط -

حُنوّ العتمة

في سنواتٍ بعيدة، اشتريتُ مسْبحةً، تلك التي حين تُطبق عليها بيديك وتُحيطها بالعتمة، تضيء.
كذلك اشتريتُ ساعةً فرنسيةَ الصنع رخيصة، تضيء أيضاً في العتمة!
العتمةُ معطفُ النور
العتمة حديثُ الذاهبات إلى البئر
العتمة رَتق السماء الخليعة
ورَتق أرض فقدت ظلالها
ورَتق روحِ الكائن الغضِّ.

لتكنْ صاحبَ أرجوحةٍ في "سفرتح الحمادة" وضارب طبل في "بوسليم".
لتكنْ صاحب "برويطة" في سوق العلالقة، وبائع فول في سوق الجمعة.

حنوّ العتمة أقربُ إليك من قنديل الروح.


■ ■ ■


البحر في شرفتي

1
وأنا أرقبُ بحر صبراتة من شرفتي بعد شروق شمس هذا اليوم،
رأيتُ البحر في جزْره، رأيتُ أيضاً خطّاً رمادياً متعرّجاً على صفحته.
أين ينتهي هذا الخطّ وأيُّ بحّارةٍ عبروه؟ 
هل هو محضُ انعكاسٍ لصخور بحرية، أم صيحاتُ لاجئين غرقى؟ 
لعلّه ذيلٌ طويل من حكايات تركها رحّالة فينيقيون منذ قرون بعيدة! 
لماذ البحر أخرس هذا الصباح؟

2
أبحث عن سلّم أو حبل، 
لأصعد عليه إلى الغيمات التي تمرّ فوق شرفتي،
على بُعد ذراع من بحر صبراتة.
أريدُ أن أسألها، لماذا لا تفرغ قِربها على صبراتة؟ 
لماذا تمزّق ثيابها، وتبدو كأنها أعلامُ بلادٍ مهزومة؟
هذه الغيمات تعبر سماء صبراتة،
مثلما تعبر مسيّرات التُرك خرساء بألف عين!


■ ■ ■


لهات الضبّ في الهاجرة

في الصحراء، الرملُ أكثر حكمة من الماء
لا أدّعي أنّي أكثر فهماً للصحراء من ساكنيها
ولا أدّعي أنَّ نافخَ الصور، راعي أغنامٍ في تاشوينت،
لكنّي أعلم أيّ قوّة تصل باليرقة إلى أعلى الشجرة
وأيّ نُبلٍ في صيرورة الحجر
وأيّ نبيذ في لهاث الضبّ في الهاجرة.

ليتني كنتُ حبّة رملٍ
وليتني كنتُ زفير القبلي آن يسقط الطائر مخموراً!

الأغنيةُ واحدةٌ، في فم الطائر وفي فم السمكة وفي فم الجبل.

يا طائر، مَن يشفع للشاعر السكران؟
الكأس مترعة والأغنية بأسٌ شديد.


■ ■ ■


في أكاكوس

التقينا براعٍ في عشّته المصنوعة من أعواد الشجر
أرانا والبسمةُ تغطي وجهه، علبةَ طماطم من عهد المملكة
كان ينظر في عيوننا 
كان يعلمُ أن العلبة ستُذهلنا
ستجعلنا نسأله كيف أتت إلى "أكاكوس"
كنّا نعلم أنه سيقول: في الرمل لا يموت شيء
وكنّا سنعطيه سجائر المارلبورو ونربّت على كتفه
قائلين: لا أمان لوقتٍ ولا لحارسٍ نعسان!


■ ■ ■


فرّوج الجاحظ

يوم أمس فكّرتُ في كتابة قصيدة فرّوج الجاحظ
كان لا بدّ من مكان يقف فيه الفرّوج
لا بدّ من وقتٍ يحمل أحلام الفرّوج.
كيف لي أن أضع الجاحظَ بين قطيعة الفرّوج للقمر وهمهمات الوادي في "عين كعام"؟
لن أجد للفرّوج ما يقتات من حلفاء الوادي ولا مراوغة البازوزي للدلّاع في صيف أوباري
له ما يشاء من صيحات قبل الفجر ولي ترنيماتُ الرمل في أكاكوس
لا أطلب أكثر من ذلك ولا يطلب الجاحظ أكثر من ذلك!


■ ■ ■


قبالة بحر صبراتة، كان الجاحظ يحتمي من العاصفة المطرية بصخرة

حين لمحني لوّح لي أن أقترب وقال لي:
صباحٌ فيه سِباع الطير، عتاق وأحرار وجوارح،
صباحٌ تولد منه الأبدية!
النامي، حوافره في الطين،
وصغار الجذور تجلس فوق أكتافه، ترقب القمر.
النامي حيوان وصهيل بريّة وحشيّة
ونبات له خفّان تأخذانه إلى حديقة النساء.
هل كنتَ تعلم أنَّ
المناقير ليست لعزف الأغاني
بل للنقر على صدر الأرض؟

حسبُ الجاحظ
أن يفرد ما أفردوا، ويجمع ما جمعوا.

حسبه أنْ
يُتابع قوارب مطاطية
يصعد عليها مسلّحون لا يرحمون
ترحل بفقراء سيموتون غير بعيدّ.


■ ■ ■


قميص الأصفهاني في أرجوحة الريح

في المقهى، النافذة مشرعة وشجرة الرمّان تلمع تحت شمس الشتاء.
ليس أبيضَ ثلجُ العتمة وليس صلباً حَجرُ السكينة.
كان عهده عصر تحدّ، فيه كانت دكاكين الورّاقين ببغداد، 
فيما أحسبُ أكثر من دكاكين البقّالين وباعة الخضار والفواكه.
اسمُه يشير إلى بيتِ نارٍ وبغداد لم تكن أبعد من ذراع.
كان طريقه إلى الشِّعر سميعٌ وقلبٌ يهمسُ للكون
"ليت كلّ الطرق تعرف قدميَّ!"
"هاتِ فلفلا مدقوقاً فقد بلغتُ حدّي!".
"لا تقربَا منّي الحمص أو شرابه فلا حاجة لي في شَرَى في جسدي 
ولا لأطبّاء لا يعلمون من أمر شَرى جسمي شيئاً!".

إيه بغداد من متسكّع حاناتها!
إيه بغداد من ورّاقيها وقيناتها!
إيه بغداد من رجلٍ كلّه سَماعٌ ولهوٌ وخلاعة!
قال: مِن عادة الغرباء في كل بلاد ومقصد:
الكتابةُ على الحيطان والبوح بأسرارهم في الحانات والبساتين.
طلب لي دواةً كي أقف ما بين المذبح
وأكتبَ على بحر المتدارك ما جاش بالقلب من كدَر.
كلّما ألقى أغنية في البحر ازدادت الحجارة على اليابسة.
ما يأتي على هذه الدنيا شيءٌ إلاّ رواه أحدٌ من الناس.
"ويح قلبي كيف بهذا اللسان أبعدني قومي وأنا ما أَبعدتُ منهم أحداً!".
"كنتُ أريد مائة فجعلتها تسعةً وتسعين صوتاً".
"لا عذرَ لهم إذ نسوا صوتي وما كان صوتي خافتاً!".


■ ■ ■


نعم، لقد رأيت الكثير

بحثت طويلاً هذا الصباح ولم أجد تجعيدةً واحدة على خدّ البحر. 
لكنّي رأيتُ الشمس تشرق من جنوب الشرق باردة، بلا حجاب.
رأيت شاحنات تنقل الحجارة الكبيرة لتصنع بها خيطاً طويلاً في مرفأ الفقراء. 
رأيت ذكَر أخطبوط يتدلّى من يد بائع السمك، حزيناً.
نعم، لقد رأيت الكثير!


■ ■ ■


الصقيع في الخارج

الصقيع في الخارج، 
لن يُطفئ الشمعة، 
لن يُقلق نوم السمكة في دورق الماء الزجاجي. 
سيقترب قليلاً من صورة الرئيس على فنجان الفخار.
سيخبره بأشياء حميمة
ويجلسان على طاولة المطبخ في سَكِينةٍ كاملة.


■ ■ ■


بيت الشتاء

بيت الشتاء الذي بنيتُه وحدي، 
كان أصفرَ مثل انعكاس التبن في شمس أغسطس. 
سقفه مثل تابوتٍ فارغ مقلوب على وجهه
أمّا الشجرة التي غرستها، 
فقد انكسرت أوراقُها من أعلى ولم تسقط، 
بقيت عالقة في الهواء كساحر بلا جمهور! 

كلّ ذلك أشعر به الآن 
كأنه حدث منذ قرون بعيدة، 
كان فيها الناس لا يتوقّفون عن المسير.
كان جلّ ما يسعون إلى رؤيته في ترحالهم،
هو كيف تتقشّر الروح من العطش الأبدي.

كلّ شجرة أحرقناها في طريقنا إلى وسط المدينة،
أخذت الطمأنينة من بيوتنا، 
أخذت اللجام من الريح، وكسّرت أصفاد العجاج.
صارت كلّما دمدمتْ في المدى سحبٌ مبعثرة، 
تشدّ كثبانها إلى ساحلٍ،
بنادقُه أكثر عدداً من الطيور!


■ ■ ■


بطاقة بريدية إلى رشا عمران

وجهكِ كان أوّل ما قابلته آنَ الدخول إلى دمشق.
كنتُ لا أعرف كيف ستكون دمشق 
وغنج دمشق 
وطرب دمشق 
وفتوّة دمشق!
لكنْ في ذلك الفجر البارد، 
أخبرني الشال الأرجواني الذي يحيط بكتفيكِ،
أن رشا هي بعضُ دمشق
وأن دمشق هي بعضُ رشا.
في مسجد الشيخ محيي الدين بن عربي، 
أعطاني رجلٌ لم أرَ ملامح وجهه 
قرطاس حلوى، 
وكان مزار الشيخ الأكبر مقفلاً. 
في سوق الخضار العتيق، 
عرفتُ حين لمحت 
استدارة رمّان قاسيون، 
أن الطريق إلى قونيا 
تمرّ من هنا.


■ ■ ■


بطاقة بريدية إلى هربرت زبيغنيف

أعلمُ أنك متّ، 
وقصائدك بعضها دوّمت بها الريح
وبعضها الآخر جرفتها أقدام الجنود عند الحدود...
لماذا نسيتَ أن تكمل حساء العدس الذي وضعتَ فيه الكثير من الثوم؟
قلتَ لي إنّك ستخبرني باسمها، لكنّك لم تفعل!
هل الموتُ شبيهٌ بصعود قطار في فجر ربيعي ناعم؟ 
عليك أن تبلّل أصبعك وأنتَ تفكّ رباط أحلامك.
عليكَ أن تخبرهم عنوانَ قصيدتك الكبرى، 
لعلهم يدعونك تشرب قهوتك 
وحيداً تحت شجرة الدردار! 
سلام ....


■ ■ ■


سمعت في مقهى شعبي في الإسكندرية

كفافيس لم يغادر بيته منذ ليلتين.
بقي جالساً عند النافذة، 
يلوّح بيده إلى خيالٍ يتحرّك بغنج!

"شتاء هذا العام سيكون قاسياً،
وسيكون هناك الكثير من الكستناء الساخن والنبيذ الأحمر الدافئ، والفراش..."،
قال وهو يشدّ على كتفيه لحافَ الصوف العتيق.


■ ■ ■


صورة الحاكم

لم تكن الصورة ملصقةً على الجدار مثل صور نجوم السينما.
لم تكن معلّقة بحبلٍ متين على سارية العلم، 
كان قادماً مترجّلاً، خلفه سيّارات الشرطة تصدح سيريناتها البرّاقة، 
ورجالٌ بلحيٍّ طويلة يركضون، في أيديهم رشّاشاتٌ ذاتية الحركة.
هل حقّا كان يبتسم للجماهير الواقفة على جانبي الطريق؟
رذاذُ كلماته تلمع في أشعّة شمس يوليو.
كان الحاكم المنتصر، يبتسم ويبتسم ويبتسم!


■ ■ ■


في مديح الأربع عرصات وبقيّة الحارات في مدينة طرابلس القديمة

الكمان على الكتف، الخلخال يُحيط بالكعب.
"له أن يفيض بالألحان ولي أن أدقّ بقدميّ أرض هذا الحوش الضيّق إلى آخر الزمان!"، 
قالت الفتاة محدّقةً في وشم على ظاهر اليد.
الشمس المنعكسة من عتبة الجامع، تسقط على لفّات الساتان الأحمر، بينما يد الرجل تسقط حبّات المسبحة في تناغم حلو مع أغنية عبد الوهاب: سهرتُ منه الليالي.
كم مرّة مشى في هذا الزقاق؟ 
كم مرّة خدّرته رائحة طبق "الحرايمي" من نافذة عالية؟
كم مرّة خفق قلبه أمام بابها؟ 
هو ليس أكثر من ولدٍ يخاف الشوارع الواسعة.


■ ■ ■


سماءٌ على بعد ذراع

هناك مَن ملأ الخِزانة بالكتب ومضى إلى حال سبيله!
خزانة مِن خشب شجرة الخرّوب، هي أقرب إلى صندق ذخيرة، رأيتُه في بيت أحد المسلّحين.
في العشيّة تأتي الطيور التي حطّت على الشجرة من أزمان بعيدة، 
تقف بجانبها في انتظار خروج الطيور التي تسكن الكتب.
الطيور التي تسكن الكتبَ كسولةٌ، لا تخرج.
آخذُ مكاني حيث يمكنني رؤية وسماع كلّ شي.
عظيمٌ حقّاً أن أفعل كلّ هذا وأنا أرتشف ببطء كأس الشاي المعطّر بالمريمية!


■ ■ ■


صوت البحر

يأتيني صوت البحر في الصباح الباكر وأنا أقف أمام اللوحة المعلّقة على الحائط القريب من باب الشرفة. أفكّر في كيف أحوّلُ قميص المرأة الأخضر إلى طاولة تُوضَع عليها فناجين القهوة المرّة وقطع الحلوى الصغيرة اللذيذة! عليّ بدايةً إزاحةُ الوجه بعينيه المليئتين بالدهشة جانباً. لعلّي أتركه على الشاطئ، صغيراً مثل حصاة مدوّرة، أو أجعله طيّارة هوائية تتدلّى من سلكٍ في الهواء بجانب طائر البوبشير! كلّ ذلك حسنٌ، بيد أن المرأة الجالسة يسارَ الطاولة الخضراء ستُواصل النظر إلى عريشة العنب أسفل الشرفة بعينين حزينتين، وهذا حقّاً ألمٌ لا أقدر على تحمّله!


■ ■ ■


طائر اللقلق

كيف أكتب قصيدة عن طائر اللقلق،
وأنا لم أرَهُ عياناً ولم أشعرْ بحفيف جناحيه 
حين يقطع سماء البيوت الطينية؟
كلّما قرأتُ اسمَه أو سمعتُ أحداً يذكره، أشعر به كواحد من عائلتي.
إذا ما زارني سيحمل معه صرّةً من طين البيت الذي بناه أبي،
يضعها عند عتبة الباب، ثم يجلس على شجرة التين المقابلة.
قالت حفيدتي هذه العشية:
انظر، جدّي، إلى طائر البوبشير فوق سارية "السايبر نت"!
كان وقتها طائرُ لقلقٍ يجلس فوق صندوق طفولةٍ بعيدة، 
بعيدة إلى حدّ أنّ يدي لا تقدر على الوصول إليها!


* شاعر من ليبيا

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون