في محادثات كثيرة مع أصدقاء وزملاء يفكّرون في ما يحدث في غزّة فلسطين ويتدبّرون الأمر، أجدُ نفسي أمام معضلة عدم وضوح الرؤية لما ستؤول إليه الأحوال. فمنّا المتشائم، ومنّا المتفائل بنتيجة تُتوَّج بالتحرير وحصول شعبنا الفلسطيني على حقوقه، ومنّا من لا يعرف، ويظلّ في المنطقة الوسط، يقلّب المسألة دون حسم لجهة أو لأُخرى. ولا شكّ أنّ هناك من يرى بقلبه، وهناك من يرى بعقله، وهناك من يرى بروحه، وهناك من يرى بجسده والأحاسيس الملموسة أو المتقمّصة، وهناك من لا يرى بأيّ شيء، ويصبح الرماد سيّد الموقف.
وربّما منبع كلّ هذه الاختلافات في التحليل والرؤى أنّه لا يوجد واقعٌ أو مثال يشبه الواقع الذي نحن أمامه في العصر الحديث، وما يحدث مهول لدرجةٍ لم نرها من قبل في التاريخ الحديث على الأقلّ. هنا يصبح السؤال عن التاريخ وما قد يساعدنا منه على فهم ما نحن بصدده من تجويع وقتل وتدمير إسرائيلي ممنهج لغزّة بمساعدة قوى عالمية تتربّع على عرشها أميركا، مُلحّاً ومربكاً في آن واحد. والسؤال المطروح: هل التاريخ هنا مصيدة أم مرآة؟ هل التاريخ في هذه الحالة هو "الهنود الحمر" وما تعرّضوا له من إبادة ومحو لهويتهم في القرون الغابرة - لا سمح الله؟ أم أُمم أُخرى ممّن تغلّبت وخرجت من قمقم قهرها من الأمم المستعمرة؟
تطرح الأطروحة على سبيل الشعار أنّ أحلك الساعات ظلمةً عادة ما يتبعها فجرٌ في حالة الأمم المستعمَرة. وهنا يستدلّ بعضٌ من الناس بالجزائر والمجازر والتدمير اللذين أصاباها قبل التحرير عام 1962، وتأتي العبارة المكرّرة أنّ الجزائر "بلد المليون شهيد وأكثر" (يعتقد بعض المؤرّخين أنّ عددهم يتجاوز سبعة ملايين خلال قرن ونصف)، وقد قُتلوا تقريباً خلال سبع سنوات من حربٍ ضروس خاضها الفدائيون الجزائريون ضدّ الاستعمار الفرنسي بين 1954 و1962. وقد ارتُكبت ضدّهم مجازر قبلها في مدينة سطيف عام 1945 وقبلها في قسنطينة وغيرها، راح فيها الآلاف من أبرياء الجزائر. وفي النهاية خرجت فرنسا ذليلة مرغمة على الاندحار، ولم يكن التحرير منّة منها.
ما يحدث مهول لدرجة لم نرها من قبل في التاريخ الحديث على الأقلّ
وأمّا المثال الثاني، وهو أيضاً مهمّ، فيتعلّق بجنوب أفريقيا؛ حيث رزحت تحت ظلمات نظام الفصل العنصري الأبيض الذي عذّب السكّان السود وفرض عليهم معازل وارتكب ضدّهم مجازر، وقتل من قتل وعذّب من عذب مِن قادتهم على غرار الرمز نيلسون مانديلا و تابو إيمبيكي وغيرهما، حتى هوى ذلك النظام العنصري في بداية التسعينيات بعد أكثر من أربعين سنة من الأحكام الجائرة ضدَّ السكّان الأصليّين السود، وأصبح مانديلا رئيساً للبلاد التي توحّدت وأصبحت أيقونة تحت حكمه، مع أنّ اسم هذا الرجل لم يُشطب من "قائمة الإرهاب" الأميركية الظالمة حتى 2018.
وهناك أمثلة كثيرة من أفريقيا إلى أميركيا اللاتينية تُفضي إلى نتائج تحرّرية يتحرّر فيها المعذّبون في الأرض من نير الظلم والإمبريالية، وإن بقيت المسألة معلّقةً في حالة بعض البلدان مثل كوبا المعزولة، وفنزويلا المحاصَرة، وإيران في آسيا وكوريا الشمالية المعزولتين من النظام الذي يسيطر عليه الغرب، وهكذا فإنّها كلّها دول تعاني من عزلة دولية ويعاني سكّانها بصورة أو بأُخرى من ظلم القوى الإمبريالية الكبرى، وخصوصاً الغرب بقيادة أميركا التي تستقوي على كلّ من يخالف تعليماتها ويخرج من فلك سيطرتها.
لكن هل تعطينا أيٌّ من هذه الدول سبيلاً أو إشارة إلى ما قد تؤول إليه الأمور في فلسطين، بحيث تكون النتيجة التحرّر والانعتاق من بشاعة الاحتلال الإسرائيلي والحاضنة الإمبريالية والاستعمارية معاً التي ترعاه؟ هنا أجد نفسي عاجزاً عن الإجابة؛ فالإجابة بالإيجابية على طريق التمنّيات والنبؤات وإرادة الكلمات، وربما على أهمّية هذه الأشياء لطاقة الأمل العظيمة والملهمة حقّاً، لا تُطعم جائعاً ولا توقف مدّاً إبادياً مستشرياً في فلسطين العظيمة. وربما يحقّ الصراخ هنا على طريقة السكّان الأصليّين في أميركا: هل يكون مصيرنا - لا سمح الله - كما هُم في هذا العصر المُسمّى بالحديث حيث الدمار والموت يُبثّان على الهواء مباشرة ويتابع الناس شلّال الدم ويتجادلون بشأنه؟ ونُكرّر على سبيل الأمل والإيمان بأمّتنا العربية الفلسطينية والأحرار في العالم.
إنّ ما يحدث في غزّة يهزّ أشجار الأرواح.
ما العمل؟ نفوّض أمرنا إلى من بيدهِ الأمر، ونعمل ما بوسعنا لمساعدة أهلنا، وننظّم فعاليات، ونخرج في مظاهرات، ونرفع صوتنا ونناشد أصحاب الأمر الصالحين والظالمين، وننظم شعراً، ونكتبُ نثراً، ونحيّي الأبطال هناك، ونتمنّى لهم السلامة والدعم. هذا ما فعله من ساعدوا أولئك الذين تحرّروا من الاستعمار، وقد وصلوا.
لا أمل خارج حدود الميدان الملتهب والمعذّب والملهم. أمّا التاريخ، فلنكن جزءاً من خطاه، ولنقحم أنفسنا في مآلاته ويدنا على قلوبنا التي تدقّ أملاً وخوفاً.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن