طرقتُ بابَ سليمة ممسكاً بأنبوبِ معجونِ الأسنان. كانَ الظلامُ دامساً، وبعضُ الأشباحِ تتجوّل في الشارع عشوائياً، وهي تَركُلُ عُلَبَ البيرة وعصيرِ البرتقالِ الفارغة. كانتْ قعقَعَةُ صنادِلِهِم على الحجارةِ تُغطِّي نَعيبَ الغِربانِ القادمِ من بَعيد. لو أخبرتُ ناديا بذلك، لما صدَّقتْني، لكنّ الأشباح كانتْ هناك، أمامَ عينَيَّ، تمشي بلا هُدى على طولِ الشوارعِ المُحاذيةِ للمباني المُدمَّرة. حتَّى أن أحدها ذهبَ إلى نافذةِ المَطبخِ، وأخبَرَ سليمة عن وجودي، بعد أن لاحظَ أن الصوتَ العالي للتلفازِ يمنَعُها من سماعِ رنينِ الجرَس.
"اللعنة!"، صرخَتْ سليمة عندما رأتْني، "هذهِ الكائناتُ الدُّخانيّة تُخيفُني دائماً حتَّى المَوت!".
ابتعَدَ الشَّبحُ مُقَهقِهاً بمَرَح.
"هاكِ"، قلتُ، وأعطيتُها أنبوبَ معجونِ الأسنانِ بالفلورايد.
"ما هذا؟"، سألتْ سليمة مُحَملِقَةً. كانتْ مكتئبةً، وبشرُتها الباهتةُ كانتْ متجعِّدةً كَخِرْقَةٍ بالِيَة.
"إنّها هديّةٌ من نيناد بافلوفيتش، لقد قابلتُهُ مصادفةً في طريقي إليكِ".
أبدتْ سليمة اهتمامها، لكنّها لم تكنْ قادرةً على التعبيرِ عن سعادَتِها المُتَوَجِّبة، كما كانتْ تفعلُ في مثلِ هذِهِ المُناسَبات.
"ولماذا لم يأتِ معكَ؟"، سألَتْ مع تلميحٍ بالرّفض. كانتْ لا تزالُ تتألَّقُ في ذهنِها فكرةُ سِحْرِه.
"في الحقيقةِ، لقد تمَّ إبعادُه".
"وماذا يعني هذا؟"، سألتْ سليمة فَزِعَةً.
"عادل لا يريدُه معَنا بعدَ الآن، إنّه لا يثقُ في تحرُّكاتِه، لأنّه يقومُ بألعابَ غامضة، فمن ناحيةٍ يساعدُنا في عبورِ الحُدودِ، ومن ناحيةٍ أخرى، يذبحُنا بهَجَماتٍ غادرة".
"هو مرَّةً أخرى؟"، هتفتْ، "لكنْ، لماذا؟".
عندما لاحظَتْ أنّني أتهرَّبُ من الإجابةِ عن سُؤالِها، ابتعدَتْ عنِّي، وألقَتْ بنفسِها على الأريكة، تناوَلَتْ وسادةً مُربَّعةَ الشّكلِ، وضَعتْها على صدرِها، ولفَّتْ ذراعَيْها حولَها. في تلكَ اللحظة، بدأ يرتفعُ صفيرُ إبريقِ الشّاي بقوَّةٍ من المَطبخ.
"سليمة"، قلتُ بعدَ لحظة، "إذا عَلِمَتْ ناديا بعلاقتِنا، فسوفُ تحدُثُ أشياءٌ من العالِمِ الآخر ...".
"ميلاد!"، قاطعَتْني سليمة بزَخَم: "أقولُها لكَ للمرَّةِ الألف: لنْ يحدُثَ أيُّ شَيء. ولكنْ، هل تُفكّرُ مثلها حقّاً؟".
"بالطبع لا"، نهضتُ لأُخفيَ ارتباكي، "سليمة... عليكِ أن تعديني أنكِ لنْ تُخبريها، اتَّفقنا؟".
ضحِكَتْ سليمة بصوتٍ عالٍ، ثمَّ مَسَحَتْ دُموعَها، وَدَعَتْني لأُعانِقَها.
"إبريقُ الشاي ما زالَ يُصفِّر"، لفَتُّ انتباهَهَا بِلُطف.
"كَلَّا يا أحمق"، أجابتْ بغَنَجٍ، "إنّه قطارُ منتصَفِ الليل القادِمِ من بلغراد".
كان أيُّ شخصٍ في مكاني لينخَدِعَ بكلامِها، فقد كانتْ على أيِّ حال كذبةً بريئةً، ولكنْ، بالنسبة إليَّ، كانتْ مسألةً مصيريّة. تحرَّكتُ على الفور، ولم يكن بوسعِ أحدٍ أن يوقِفَني، حتَّى جسدُها الذي كان يتلوَّى مثل قطٍّ، ينضَحُ برغباتٍ مُتأجِّجة. تخطَّيتُ الصالون بثلاثِ خَطواتٍ، ووصلتُ إلى المطبخ، غير آبهٍ باحتجاجاتِها. لا أتذكَّرُ الآن ماذا حدَثَ في تلكَ الدقائِقِ القليلة، لكنَّني أدركتُ حالاً أنّني أمام جريمةٍ تقشعرُّ لها الأبدان. كانتْ جُثَّة كونغاوو ترقُدُ على الأرض، مُحاطَةً بأسلافِهِ، بين طبقةٍ كثيفةٍ من البُخار، ذراعُه اليمنى محشورةٌ داخلَ الفُرنِ المُشتعِل، والأخرى ملتويةٌ تحتِ ظَهرِه، بينما إبريقُ الشاي، مدفوعاً من ضغطِ البُخار، كانَ يحومُ في الهواءِ مثلُ طائرٍ مُحاصَر.
"هيَّا، أُخرُجْ، لا فائدةَ من البقاءِ هنا"، سمعتُ سليمة تهمِسُ من خَلفي.
"بربِّكِ، اتَّصلي بسيَّارة الإسعاف!"، صرختُ وأنا أتراجَعُ من الخوف.
في أثناء ذلك، وصَلَ أسلافٌ آخرونَ إلى المكان. كانوا جميعاً بلباسِ المُحاربين، ويحمِلونَ بأيديهم رماحاً وأقواساً وسهاماً، ويُتَمْتِمُونَ عباراتٍ غامضةً وهم يحدِّقونَ بنا بعيونٍ داميَة.
"كَلَّا، يا ميلاد"، لمَستْني سليمة من كَتِفي بأصابِعَ مُتجمِّدةً، "لا فائدة من سيَّارةِ الإسعاف، دعهُم يأخذونَه، كانتْ أُمنيَتُهُ الأخيرة أن يُدفنَ في أرضِه".
في هذه الأثناء، وَضَعَ المُحاربونَ جُثَّة كونغاوو على سريرٍ مَضفُورٍ من الأغصانِ الغَضَّة، وأخذوا يُكمِلونَ طقوسَ الجنازةِ قبلَ نقلِها إلى الغابة. صَعِدْتُ وسليمة إلى العِلِّيَّة، مروراً بالشُّرفةِ الدائريّةِ ذاتِ الطرازِ الأثري والمُعلَّقةِ على جانبِ المبنى، غيرَ مُبالينَ بتلكَ الصّيحاتِ الوَحشيّة. بدا الطريقُ من تلكَ النُّقطَةِ عَمودياً، وكنَّا نمشي ورؤوسُنا إلى الأسفل. دخَلنا إلى غُرفةِ النّومِ على رُؤوسِ أصابعنا. كانَ الطّفلُ، الذي وُلد من علاقَةٍ سرِّيّةٍ مع كونغاوو، يرقُدُ في مهْدٍ خشبِيٍّ تحتَ النافذة، وستائِرُ الساتانِ الأُرجوانيِّ اللونِ تخلقُ ظلاماً بارداً، في حينِ أنَّ الوَهجَ الباهتَ الذي يتسرَّبُ منَ السّقفِ عبرَ فجوةٍ، بسببِ صاروخٍ، يُعطي الانطباعَ وكأننا نمشي في الفراغ، بينما رائِحَةُ المِسْكِ تبدو وكأنَّها تغزو الغُرفةَ بموجاتٍ مُنتَظمَة.
كانَ يمكنُ لأيِّ شخصٍ أن يتخيَّل بسهولة الطريق الذي سلَكَتْهُ سليمة من الفخامِةِ البرَّاقَةِ ورائحةِ الألبسَةِ الداخليّةِ المُتناثِرَةِ في كُلِّ مكان. خلالَ كلِّ تلكَ السنواتِ لم تتخَلَّ سليمة أبداً عن عادَتِها في ممارسَة الحُبِّ وهي تفكِّر في مَزارِعِ الكُرُومِ والشمسِ التي تُشِعُّ فوقَ سُهول إدْلِبْ، المحافظةُ الخضراء. أكثر من مرَّة، خاصَّة عندما تجِدُ صعوبَةً في فَهمِ كُلِّ تلكَ المِحَن، كانتْ تَضيعُ في الوَهْم، وتفعلُ ذلكَ بإيماءاتٍ فاحِشةٍ، ولكنْ، بسحرٍ فريدٍ من نوعه.
"هل أنتِ متأكِّدةٌ أنّكِ الشّخصُ نفسُه؟"، سألتُها قبلَ أن أنزلَقَ تحتَ الأغطية. كانتْ تقِفُ أمامَ المرآة، وهي تتأمَّل جسَدَها العاري: صورةٌ ظليلةٌ نحيلةٌ، شبهُ شفَّافةٍ، متوَّجةٌ بشَعْرٍ طويلٍ عسَليِّ اللون.
"أنا لستُ متأكِّدةً من أيِّ شيءٍ"، تأوَّهتْ قليلاً، "أحتاجُ دائماً إلى لَمْسِ غَرَضٍ ما، لأشعُرَ بحرارةِ الأشخاصِ الذينَ ألتقيهِم. باختصار، أعتقدُ أنني بحاجة ٍإلى الكثيرِ من الحَنان".
"لقد كانَ الزنجيَّ المفضَّلَ لديكِ، وقلتِ دائماً إنّه لا يمكنُكِ العيشَ بدونه!".
"ميلاد، صدِّقني، أنا لم أقتلْهُ. هاكَ، اِقرأْ ملفِّي، لقد قاموا بإجراءِ تحقيقٍ تعَسُّفيّ في قسم شُرطَةِ دارمِشْتاتْ!".
ألقَتْ نحوي بمجلَّدٍ أصفرَ، من تلكَ التي يمكِنُ شراؤُها بيورو واحد من محلاَّتِ السّوبر ماركت.
"ثمَّ أجريتُ المقابلةَ دونَ وُجودِ مترجِم"، تابَعَتْ، "وكلَّما زادتْ شكواي، ازدادَتْ سُخرِيَتُهُم، لأنَّهُم اكتشفوا أنني كنتُ أمارِسُ الدّعارَة".!
"كم كانَ عُمرُكِ؟".
"كنتُ في السابعةَ عشرَ تقريباً، لكنْ، لا ينبغي أن يخيفكَ هذا، أعرفُ أنَّكَ تُفكِّرُ مثلَهُم!".
"سليمة ... "، قلتُ، مُحاوِلاً تشويشَ أفكارِها، "أنا أفكِّرُ في جَسَدِكِ فقطْ ... صَدِّقِيني ...".
ضحِكَتْ سليمة بحرارةٍ، وَوَضَعَتْ يدَها على بطنِها، ودارَتْ حولَ نفسِها مثلَ الدوَّامة. ما كان يبدو لي مُؤلماً، لرُبَّما بدا لها مُضحِكاً. بهذا الصدد، كانتْ على وئامٍ تامٍّ مع عادل، ولكنَّها بخلافِهِ، لم تُظهِر أبداً سُخريَتَها اللامُبالية، حيثُ كانتْ تُخفِيها دائماً خلفَ حِيَلٍ دَنيئة، تَعلَّمَتْها في أسوَأ شوارعِ المدينة.
"أنا أفكِّر بهذه الطريقة"، قالتْ بجدِّية، "إنها الطريقةُ التي تجعلُني أشعرُ بالنشوةِ في الأجزاءِ السرِّيّةِ من جَسَدي. حتَّى كونغاوو، بجَسَدِهِ الدّامي، حاوَلَ الخُروجَ من الأدغالِ للوصولِ إلى هذا المَكانِ الّلعين، لكنَّهُ لم يحصُلْ أبداً على المَجدِ الذي كانَ يسعى إليهِ دائماً. كانَ يعلَمُ أنَّهُ سيموتُ بين ذراعَيَّ، لكنَّهُ لم يفعلْ شيئاً لتَجَنُّبِ ذلك. ميلاد، ذاكَ كان ميّتاً منذُ أمد، الأرواحُ لا تغفِر!".
"عندما التقيتُهُ للمرَّةِ الأولى، ظهَرَ لي كما لو أنَّهُ سَيِّدُ مصيرِهِ! رأيتُهُ أيضاً بينما كانَ يصطاد، وفي الليلةِ التي سَبَقَتْ مجيئَهُ لرؤيَتي، أخبرَني أنّهُ رأى جدَّهُ أمامَ فَمِ النّارِ العظيم، يتأمَّلُ عمليةَ اكتشافِ الحَديد. وفي وقتٍ لاحقٍ، هرَبَ من أرضِهِ، مُعتقداً أنه سيعثُرُ على الجنَّة هنا ... وأيَّةُ جنَّة!".
ظلَّتْ سليمة صامتةً، تُراقِبُ بعينَينِ ذاهلتَينِ رجالَ الشُّرطة الألمان وهم يتسلَّقونَ السُّلَّمَ الحديديّ. كانَ هؤلاء يطلبونَ من أحدِ اللاجئينِ الاستسلامَ، ومُسدَّساتِهِم في متناوَلِ أيديهِم. كانَ الرّجُلُ في منتصَفِ العُمُر، يرتدي مِعطفاً قاتماً، ويبدو وكأنّهُ يسخَرُ منهُم. كانَ يتظاهرُ بالسُّقوطِ، ثمَّ يلمْلِمُ نفسَهُ، ويعاوِدُ الرَّقصَ على حافَّة السّطح.
"يمكنني النَّيلُ منهُ بِسهولة"، اقترَحَ أحدُ رجالِ الشّرطةِ المُتحمِّسين. أجابَهُ قائدُ الدّوريّة، الذي كان يدُسُّ يدَيْه في جيوبِ مِعطفٍ واقٍ من المَطر رماديِّ اللون، بابتسامَةِ احتقار. وعلى مسافةٍ قريبة، هناكَ خبيرانِ في مكافَحَةِ الإرهاب، كانا بينَ الفينَةِ والأخرى يهمِسَانِ بشَيءٍ مُهمٍّ للغاية في أُذنهِ، فيهُزُّ قائدُ الدوريّة رأسَهُ بقَلَقٍ، ثمَّ يصرُخُ غاضباً:
"اللعنة! اتَّصِلوا بالمقرِّ العامِّ حالاً...".
استأنَفَ اللاجئُ رقصَتَهُ المُرعِبة، وهو يغنِّي بأعلى صوتِهِ، وبدا أن هذهِ الوقاحةُ المفرطةُ قد لمَسَتْ أعصابَ الشُّرطيِّ المُتحمِّس.
"لااااا! ... لااااا! ...".
ألقَتْ صرخَتُهُ اليائسة الرُّعبَ في نفوسِ زُملائه المُتمَترِسِين خلفَ السيَّارات الوامضة، فأخذوا يطلِقونَ النارَ من كلِّ صَوب. بدأتْ مئاتُ الرصاصاتِ تنطلِقُ من الأسفلِ إلى الأعلى، راسِمَةً العديدَ من المساراتِ المتوازيةِ في الظلام، وكانتْ تختَفي في نُقطةٍ مُعيَّنة، تلك التي يحتَلُّها اللاجئ. قاومَ اللاجئُ لبضعِ دقائقَ، ثمَّ بدأ يتأرجَحُ بشكلٍ خطيرٍ، وظلَّ واقفاً للحظةٍ على قَدَمٍ واحدة، مُحاوِلاً أن يُحافظَ على توازُنِهِ، مثلُ بهلوانِ سيركٍ جريءٍ، إنّما كثافةُ النّيرانِ منَعتْهُ من السّقوطِ لمدَّة دقيقتَينِ طويلتَينِ.
في النهاية، تغلَّبَتِ الجاذبيةُ الأرضيّةُ على المقاوَمَةِ الاصطناعِيّة، وقامَ الرَّجُلُ بقفزَتِهِ الأخيرة، كما لو كانَ يَغطُسُ في مَسبَحٍ أولمبي. ولكنْ، على الرّغم من الجُهدِ الذي بَذَلَهُ، لم يتمكَّنْ من إنهاءِ الشَّقلَبَةِ الثالثة، لأنَّ الأرضَ كانتْ أقربَ ممّا يتصوَّر.
أخَذَ قائدُ الدوريّة يُصفِّقُ برضى، وقدَّمَ لهُ أحدُ مساعدِيهِ كأساً من القهوةِ السَّاخِنة، فارتَشَفَ منها، وهو ينظُرُ إلى ما وراءِ المدينةِ الغارقةِ في الظّلام.
انفَعَلَتْ سليمة بقوَّة، وبدأتْ تُصفِّقُ بدورِها.
"هل أعجبكَ ذلك؟"، سألتْ بعد أن أطفأتِ التلفاز.
"لقد رأيتُ المئاتَ من هذه المُسلسلاتِ؛ من المُمتعِ إطلاقُ النّار بتلكَ الطريقة: من الأسفلِ إلى الأعلى".
[...] بدا لي وكأنَّها نداءاتٌ قادمةٌ من الماضي: كانتْ سليمة تركُضُ حافيةَ القدمَين على ضفَّةِ النّهر، وهي تصرخُ طالبةً النّجدة. لم يكنْ الجلَّادُ في عجلةٍ من أمرِهِ، كان يتبعُها بخَطواتٍ بطيئة، وهو يمضَغُ التّبغَ، ويبصُقُ على الطيورِ المُحتشدةِ بين جُذوعِ أشجارِ الزّيتونِ المُتناثرةِ هنا وهناك. كانتْ سليمة، على أيَّة حال، ستستسلِمُ وحدَها.
شَعَرَ قطيعٌ من الكِلابِ الضالَّة بواجِبِ الدّفاعِ عنها، فحاولت قَطعَ طريقِ الجَلَّاد، مُظهرةً أنيابَها. لكنَّ الجَلَّادَ هاجَمَها، فاغراً فمَهَ الواسع، فهربَتِ الكلابُ بعيداً، والتجأتْ خلفَ الأشجارِ لتَجَنُّبِ عَضَّاتِه. كانت سليمة مُستلقيَةً على الأرضِ على مسافةٍ قريبةٍ جدَّاً، مُنهَكَةً من التَّعب. اقترَبَ الجلَّادُ منها، ورفَعَها بذراعَيْه الضّخمَتَيْن، وحمَلَهَا على كتِفِهِ كطريدةِ صيد.
بقي واقفاً في مكانِهِ لبعضِ الوقتِ يُصغي إلى صوتِ النّهر، ثمَّ توجَّهَ إلى نُقطةِ التّفتيش، تلكَ التي تحمِلُ اسمه، نعم "الوحش". في تلكَ الخيمة، التي أُقيمتْ بالقربِ من أكياسِ الرَّملِ، كانَ يَجِدُ راحتَهُ، أو هكذا يبدو له. قبلَ سليمة، كانتِ العديدُ من الفتياتِ قد عِشْنَ تلك التَّجربة، وما زالتِ الأرضُ الرّطْبُة تحافِظُ على مِلحِ دموعِهِنَّ.
[...] قرأتُ كلَّ هذا في نظراتِها السَّاهية، وأنا أفكِّر لو أننا استطعنا فقط أن نعودَ إلى تلكَ الأماكِنِ للمُطالبةِ ببراءَتِها. وافَقَتْ على الفور، أحسسْتُ بذلك من أنينِها المخنوق، الذي انبعَثَ من حَلقِها عند رؤيةِ أسلافِ كونغاوو وهم يقتحمونَ الغُرفةَ من كلِّ الجهات. كانوا غاضبينَ غضباً رهيباً، وصرخاتُهم تصِلُ إلى عَنَانِ السّماء. بعد أنِ انسحبوا، أحصَيْتُ وسليمة اثنَيْن وستِّين رُمحاً ومئتَيْن وستَّةَ سهامٍ مغروسةٍ في أجسادِنا التي لم تنزِفْ قطرةَ دَمٍ واحدةٍ من هَوْلِ الخوف.
* مقطع من "في الطريق إلى برلين" التي تصدر هذه الأيام عن "منشورات المتوسط"