علاقة الفيلسوف بالسُّلطة قديمةٌ قِدَمَ الفلسفة نفسها. أي منذ أن قرّر فلاسفةٌ التدخّل في ما لا يعنيهم: قولُ العالم بالكلام، تعويضاً عن عدم قدرتهم على إنجاز ذلك بالأفعال. بهذا، جاوَر الفلاسفةُ الشعراءَ المهمومين بمِحْنة العالم الحديث، هذا العالم المفتقد للسماويّ منذ أن جرى "اغتيال الإله". قبل سؤال: "ما نفْع الشعراء في زمن المِحْنة؟"، الذي طرحه هولدرلن في مرثيّته "خبز ونبيذ"، كان ثمّة سؤالٌ آخر: "ما نفْع الفلاسفة في زمن المِحْنة؟". ليس سعْيُ أفلاطون إلى لعِب دور سياسي ــ ولو في ظِلّ الحاكم السرقوسيّ المستبدّ ــ، ولا تقديم أرسطو النُّصح إلى الإسكندر المقدوني، بالحالتين الفريدتين من نوعهما في التاريخ. ذلك أن الفلسفة ــ وحالها في هذا حالُ الشعر، بالمناسبة ــ لم تتوقّف، منذ اللحظة التي ستصمت فيها السماء، عن إعادة ابتكار العالم بالكلام الذي كان من امتيازات العناية الإلهية.
جاوَر الفلاسفةُ الشعراءَ المهمومين بمِحْنة العالم الحديث
لم يؤدِّ "موتُ الإله"، كما شخّصَه نيتشه، إلّا إلى تحوُّل البشر إلى أفراد مبعثرين، منعزلين عن بعضهم كالذرّات، يجدون صعوبةً في العثور على لغة مشتركة. وقد أخذ الشعراء والفلاسفة على عاتقهم مهمّة تجميع هذه الذرّات البشرية المنسوجة من أنانياتٍ منعزلة، مقدّمين لها وعداً بالإقامة في تاريخ من شأنه أن يحميها من مِحنة العالم وضائقته. وإن كنّا مَدينين إلى الرواقيّ إبكتيتوس بتمييزه المهمّ بين "الوِحدة" (اجتماع المرء بذاته أو بأناه) وبين "الضائقة" (فقدان الخِطاب المشترك مع الآخرين)، فإنّ علينا الاعتراف بدَيْننا أيضاً إلى إرنست يونغر والفلاسفة الناقدين للحداثة، الذين أضاءوا على العلاقة بين "موت الإله" وصعود التقنية، التي سمحت للفيلسوف بأن يحلم بالفعل السياسي، وللشاعر بأن يصبح حاجباً لدى السُّلطة.
لكن ماذا عن الفيلسوف العربيّ؟
إنْ كان الفيلسوف، في الغرب، شاهداً على "موت الإله"، فلأنّ هذا الموت كان نتيجةً للعلم والتقنية اللذين لم يرسما للميتافيزيقا أيّ مكان في رؤيتهما الوضعيّة. أمّا الفيلسوف العربي، فهو يختلف عن ذلك الغربيّ في واقعة مختلفة جذرياً: تُولد الآلهة في الشرق، لكنها لا تموت أبداً. ومن شأن هذه الملاحظة أن تغيّر تماماً المعطياتِ التي حدّدت المصير المأساوي للفلسفة والفن في الغرب.
1- فقد كان على الفيلسوف العربي أن يجد صيغةً للتعامل مع إلهٍ ما يزال حاضراً وليس من المتوقّع موته في القريب العاجل، ومع العواقب التي قد يتسبّب بها غيابه. إنّ عملية التفريد، أو التحويل إلى أفراد، التي عرفتها المجتمعات الغربية في القرون الثلاثة الماضية، تمثّل ظاهرةً غريبة على المجتمعات العربية التي تقوم بِناها الاجتماعية على العصبيّة القبلية والعائلية. وقد كان من شأن هذه البِنى أن منعت هذه المجتمعات من التطوّر نحو ثورة صناعية وسياسية خاصّة بها، قائمة على التفريد وعلى قرينه: دولة القانون. على أنّ الإضاءة على هذه الملاحظة لا يعني أبداً أنه في إمكاننا أن نخلص إلى القول بوجود ثنائية مؤلّفة من كيانَيْن مجرَّدين ــ الغرب الحديث والعالم العرب غير الحديث ــ لا يتقاطعان أبداً أو لا يعرفان بعضهما. ومع ذلك، فإنّ هنالك حقيقةً لا تقلّ مصداقيةً عن هذه، وهي أن الاحتكاك بين شكلَي الاجتماع هذين لا يؤدّي بالضرورة إلى دخول العالم العربي الحداثة متأثّراً بالغرب ووفقاً لمسارٍ تطوّراني خطّي يعيد إنتاج مسار الغرب نفسه.
2- إنّ المواجهة بين العالم العربي والحداثة الأوروبية، أكانت متمثّلةً بحملة بونابارت على مصر أو بالمدارس التبشيرية الأوروبية إلى لبنان، لَمرتبطةٌ تاريخياً بظاهرة الكولونيالية وبالتفوّق التكنولوجي الغربي. ومن هنا تأتي صعوبة الموقف الفلسفي والسياسي الذي يمكن اتّخاذه في وجه هذا التفوُّق: الممانعة، أي الدفاع عن هوية قومية ثقافية (انظر القش، 1980)، والسعي إلى تملُّك هذه التكنولوجيا التي تشكّل أساساً لذلك التفوُّق.
كلّ الإشكالية التي تواجهها الدولة العربية الحديثة، منذ النهضة، تدور حول هذا السؤال: كيف يمكننا تملُّك التكنولوجيا الغربية من دون خسران هويّتنا الثقافية؟ سؤالٌ يمكننا إعادة صياغته على نحوٍ آخر: هل يمكننا القيام بثورة عربية من دون الاقتداء أو الأخذ بنموذج ثورات 1776، و1789 و1917؟ هل ثارت الشعوب العربية من أجل بناء مستقبلٍ على الطريقة الأوروبية أو من أجل الدفاع عن ماضٍ يهدّده التفوّق التكنولوجي الغربي والمؤسّسات الديمقراطية الغربية؟ كيف يمكن القيام بـ"ثورة من دون نموذج" (شاتليه، 1975).
3- هل تميل الحداثة الأوروبية، في علاقتها بالمجتمعات غير الحديثة، إلى تعميم نموذجها على الشعوب المغلوبة وإلى منحها الأسرار العِلمية والتكنولوجية لتفوُّقها؟ بعبارةٍ أخرى: هل للحداثة مصلحةٌ في عولمة نموذجها بما يجعل من كوكبنا قرية حديثة أو ما بعد حديثة؟ ألا يعني هذا تخلُّصاً أو تملُّصاً طوباوياً من سؤال السُّلطة؟ تلك هي بعضٌ من الأفكار التي ستساعدنا في الإجابة عن السؤال: ما الذي يعنيه أن يكون المرء فيلسوفاً عربياً اليوم؟
بطاقة
مفكر وأستاذ فلسفة لبناني من مواليد زحلة عام 1946، درس العلوم السياسية في لبنان قبل أن يحصل على الدكتوراه في الفلسفة من "جامعة السوربون" بفرنسا، وهو اليوم أستاذ للفلسفة السياسية في "جامعة لافال" بكندا.
جعله التزامه بالقضية الفلسطينية مقرَّباً من الحركات اليسارية التي تفرّعت من "ثورة مايو 68" في فرنسا وإيطاليا، وهو ما دفعه أيضاً إلى العودة في ما بعد إلى لبنان مع بداية الحرب الأهلية، حيث عمل أستاذاً للفلسفة في الجامعة اللبنانية.
صدرت لسهيل القش أبحاث عديدة باللغة الفرنسية حول قضايا الحداثة والتقنية والاستعمار، من بينها كتاب مشترك مع ماري هيلين باريزو بعنوان "تعدّد: الحداثة والعالم الإسلامي" (2001)، كما أشرف على عدّة كتب، من بينها: "الإسلام وحقوق الإنسان: في ذكرى فرنسوا شاتليه"، و"اللاتكافؤ في حوار الثقافات" (2005)، و"العنصرية الجديدة" (2006).
ومن مؤلّفاته بالعربية: "في البدء كانت الممانعة؛ مقدّمة في تأريخ الفكر السياسي العربي" (1980)، وهو عمل ضمَّنه مجموعة من المحاضرات ألقاها بين عامي 1978 و1979 بالجامعة اللبنانية. وآخر أعماله بالعربية كتابٌ سيصدر العام المقبل عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بعنوان "لبنان: المِرْآة المتكسّرة". ومن ترجماته إلى العربية "الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي" (1982) لـ فريديريك نيتشه.