فيليبور تشوليتش.. دليل بلقانيّ للمنفى الفرنسي

06 يناير 2021
فيليبور تشوليتش (ت: لوكا جيرلانتش)
+ الخط -

عند وصوله إلى فرنسا، عام 1992، قادماً من البوسنة، لم يكن فيليبور تشوليتش (1964) يعرف من لغة موليير إلا كلمات ثلاث: جان بول سارتر. لكنّ معرفة اسم الفيلسوف الفرنسي وأعماله، وتجربة سنواتٍ في الصحافة والموسيقى، مثقلة بشهادة ماجستير، لن تحول دون مقاساة الرجلِ طويل القامة، ذي العينين الزرقاوين، تجربةَ المنفى الصعبة والمعاناة الإدارية التي يعيشها اللاجئون في فرنسا. "مهاجر"، "لاجئ"، "شخص بلا أوراق إقامة رسمية": معجمٌ مؤلف من كلمات كهذه سيحاول الكاتب البوسني تجنّبه، في سنواته الفرنسيّة الأولى، دون جدوى. عليه أن يتصالح مع اسمه وواقعه الجديدين، مع هذه البطاقة التي تُلصَق على جبينه وتختصر حياته وماضيه، بكل تفاصيلهما وشخوصهما وعلاقاتهما، بتسمية بيروقراطية. 

لكنّ التصالح، في عِرف تشوليتش، يعني المقاومة. المقاومة بالكتابة، بالأدب. في فترة أولى، سيعود الكاتب إلى ماضيه القريب، إلى حروب البلقان وتجربته كمقاتل مجبَر على الوجود في الجبهة، كلاجئ في معسكر مسيّج على عجل، وكشخص فقد ناساً أحبّهم ومنزلاً رأى طفولته تكبر وتتعثّر. هذا ما يحكيه كتابه الأوّل، "البوسنيّون: بشرٌ، مدنٌ وأسلاك شائكة" الذي كتبه بالصربية الكرواتية ليُترجَم وينشر بالفرنسية (1994).

مع كتابه الثاني "حياة أميديو موديلياني المقتضبة والغريبة بشكل لا يصدّق" (1995)، يقوم الكاتب البوسني بنقلة سيكرّرها في كتب أُخرى، تتمثل في التماهي مع رموز فنية وأدبية تتيح له التعبير عن نفسه بلغتها، والنظر إلى الأمور بعينيها. ترافقت هذه النقلة مع خيار بالميل بشكل واضح إلى السخرية: مقاربة الوجود وتفاصيله بلغة تتهكم من الذات قبل أي شيء آخر

مقاربة الوجود وتفاصيله بلغة تتهكم من الذات قبل أي شيء آخر

أما الانقلاب الأبرز في تجربة تشوليتش الفرنسية، وربما في تجربته ككاتب بشكل عام، فيتخذ من 2008 تاريخاً له، وهو العام الذي شهد صدور أول كتاب ألّفه بالفرنسية مباشرةً ("أرشانج"). لكن الكتابة بلغة سارتر لا تعني للكاتب البلقاني النجاة من فضاء العذاب واللذة الذي تشكله علاقته الخاصة باللغة: "أكتب بلكنةِ أجنبيّ"، يقول تشوليتش الذي يواجه، حتى اليوم، بعد أكثر من 28 عاماً من وصوله إلى فرنسا، أشخاصاً يسألونه "من أين أنت؟" بمجرّد ما يسمعونه ينطق كلمةً فرنسية. 

تجربة اللغة والمنفى هذه ستكون مادة كتبه اللاحقة (التي تذكّرنا، رغم خفّتها أحياناً، بميلان كونديرا وأمير كوستوريتسا) ولا سيّما "دليل للمنفى: خمسة وثلاثون درساً لتحقيق النجاح في منفاك" (2016) و"كتاب الأسفار"، الذي صدر قبل عدة أشهر لدى "غاليمار". ورغم أن هذين الكتابين يحملان دمغة "رواية" على غلافهما، إلا أنهما يقتربان أكثر من المذكرات الشخصية المعزّزة بجرعة من الخيال. ذلك أننا لسنا إزاء خطّ سرديّ متصاعد ولا تعدد في الشخصيات أو في المستوى اللغوي بل أمام يوميات ومفارقات وأفكار بطل منفيّ في فرنسا، هو الكاتب نفسه.

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون