فوكو والثورة الإيرانية... ما رآه في طهران وما توقّعه

04 يوليو 2021
من تظاهرة في طهران، شباط/ فبراير 1979 (Getty)
+ الخط -

في 14 فبراير/ شباط من عام 1979، تعمّق الصدع داخل بنية نظام الشاه محمد رضا بهلوي. الطاقة الكاريزماتيّة لرجل الدين الشيعي، آية الله الخميني، فجّرَت ثورة ضد النظام المدعوم غربياً. ثمّة اتّفاق لدى غالبيّة سكّان المنطقة ودارِسيها، بأنّ الثورة الإيرانية هي نقطة تحوّل تاريخيّة في الشرق الأوسط. استمدّ نظام الشاه جزءاً يسيراً من قوّته الداخلية وشرعيته الخارجية من تحالفه المتين مع القوى الغربيّة، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركيّة في فترة الحرب الباردة.

تحالُف الشاه مع الغرب لم يترافق مع أيّ إصلاحات ليبراليّة في الداخل. ساءت الأوضاع الاقتصادية للناس، واشتدَّ عصب القمع الأمني، وتغوَّلَ جهاز "منظّمة المخابرات والأمن القومي" (السافاك) في المجتمع. ترافق ذلك مع عقود استثمارية سخية للشركات النفطية الغربية، في زمن كانت للنفط فيه كلمةٌ في العلاقات السياسية. استخدم النظام قبضة أمنية في التعامل مع المعارضة السياسية التي كانت مُتشكّلةً في تيارين عريضين: اتجاه شيوعي قومي، معادٍ للرأسمالية الغربية من منطلق تخندقات الحرب الباردة. واتجاه ديني، قومي أيضاً، معادٍ للحداثة الغربية من منطلق ديني محافظ. قُتِل من المعارضة من طاولته قبضة "السافاك" وهُجِّرَ من نجا إلى المنفى.

قبل ذلك، في نهايات عام 1977، كان من الممكن شمّ رائحة السخط والتوتّر في الفضاء العام. في أوساط الطلاب وشرائح من الطبقة الوسطى ونقابات المحامين وأصحاب الأعمال الصغيرة، كُسِر حاجز الصمت وفاض الغضب من الصدور. بالتزامن مع ذلك، صارت دعوات ملالي الشيعة بضرورة إجراء "تجديد ديني للسلطة السياسية" تلقى آذاناً صاغية أكثر لدى قطاعات واسعة من الناس. نمت الاحتجاجات بسرعة تكاثر فيروسيّة في عام 1978، وقُوبِلَت من نظام الشاه بقمعٍ أمني محض. حتّى 11 شباط/ فبراير من عام 1979، قُتِل، على الأقل، 20 ألف شخص من رصاص مخابرات "السافاك" والاشتباكات العلنية في الشوارع بين قوّات الحرس الثوري ومليشيات نظام الشاه. 


الوصول المناسب

لم تكن الثورة الإيرانيّة المدخل الذي خرج منه الإسلام السياسي إلى مسرح العالم فحسب، بل كانت نقطة تحوّل فكرية في تجربة الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926- 1984). صَكُّه مفهوم "العلاقات داخل الذات" (والذي سيتوضّح في سياق النصّ) ونقده الذاتي لتصوّراته التي وضعها عن الفرد والسلطة في كتابه "المراقبة والعقاب" كلّها تحوُّلات يمكن إرجاعها، إلى حدّ كبير، إلى تجربته الحسية في مراقبة هذا الحدث التاريخي.

على عكس الكثيرين من مثقّفي أوروبا الذين تابعوا الحدث وعلّقوا عليه، سلك فوكو طريقاً خاصاً. لم يكتفِ بقراءة الخبر من باريس، بل قام بصياغة الخبر من إيران. قبل كلّ شيء، قرأ بشكل معقول كتبًا وأبحاثًا عن تاريخ إيران السياسي والاجتماعي. سافر مرّتين إلى طهران: مرة أولى في سبتمبر/ أيلول، ومرة ثانية في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1978. سفره كان في سياق مهمّة صحافية لجريدة "كوريري ديلا سيرا" Corriere della sera الإيطالية المشهورة. تحرّك بقدميه كي يرى بعينيه: "كيف تنشأ الأفكار، وتقوم بإعادة تشكيل الواقع" وعَنْوَن نصوصه الطازجة من طهران "تقارير الفكرة".

كلّ هذه التقارير الصحافية متوفرة باللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية في مكتبة قسم الدراسات الثقافية في "جامعة هومبولدت" في برلين. حتّى إنّ وقت دخوله إلى طهران كان ممتازاً، إذ وصل المؤرّخ الفرنسي بعيد مجزرة "الجمعة السوداء" التي اندلعت في ميدان جاليه، لمّا ارتكبت قوّات الشاه مذبحة علنية بحقّ المتظاهرين. نصف الشوارع مغلقة، والنصف الآخر مسرح لاشتباكات شرسة، وغمامة سوداء تغطّي العاصمة... كانت طهران تغلي لمّا وصل فوكو إليها.


يساريون من دون يسار

أجرى فوكو حوارات مع مثقّفين معروفين ورجال دين ومعارضين سياسيّين وعمال مياومين وطلاب جامعات. الملمح المشترك في كلّ الآراء التي يتقصّاها هو الارتياب والتشكيك في الحداثة الغربية. عملية التحديث القسرية التي حاول الشاه المدعوم غربياً أن يفرضها بلغة العضلات، وفشل فيها بشكل ذريع (على عكس النجاح الجزئي للتحديث القسري الأتاتوركي)، شوَّهت العلاقة مع الثقافة الغربية نفسها. في أذهان كلّ معارضي النظام، ارتبط التحديث الغربي بالفساد المؤسساتي والإفقار الاقتصادي والقمع السياسي لنظام الشاه. في أحد تقاريره، يشير فوكو بأنّ فشل الإصلاح الزراعي والتحديث القهري والأزمة الاقتصادية، دَفعَ قطاعات واسعة من السكان في المدن الصغيرة والحواضر الكبرى إلى نطاقات البؤس. "الأمل الوحيد" أو على الأقل الشكل السياسي الذي لم يُجرَّب في السلطة، كان حركة إسلاميّة تدّعي بأنّها ستقوم بـ"تجديد ديني للسلطة السياسية".

عند قراءة التقارير، تُلاحظ الأسئلة الداخلية التي بدأت ترتفع داخل نفس فوكو. يقول مثلاً: "أعرف شخصياً الكثير من الطلاب الذين سيُصنَّفون كيساريين في معاييرنا (معايير الثقافة الأوروبية). لكنّهم يعبّرون عن ذواتهم بكلّ شفافية وصدق، ويطالبون في لافتاتهم بشكل واضح بحكم دولة إسلامية". يلاحظ فوكو أنّ الأفكار اليسارية بمعانيها الكلاسيكية لم تكن أبداً الصاعق الروحي أو العامل الشاغل للأذهان والمحفّز للمواطنين. لم يكن للماركسيين والشيوعيين الإيرانيين أيّ تأثير فعلي على مسار الأحداث. ما حصل في إيران لم يكن أبداً ثورة مُفصَّلة على مخيال اليسار الأوروبي الجديد الذي تشكّل بعد حرب فيتنام. عصب الثورة هم رجال الملالي، والذين يعرفون ماذا يريدون: "رجوع إلى الجذور الدينية الشيعية وتقاليد الأخلاق الإيرانية لمواجهة سياسات التحديث القهري". يقول فوكو مُلوِّحاً بمعرفته المباشرة من الأرض: "لا يجب افتراض أيّ شكل من أشكال الوعي اليساري عند هؤلاء. الناس هنا لا تعرف شيئاً عن كوبا والصين وفيتنام".


طاقة المعتقد

في 13 فبراير/ شباط من عام 1979 ظهر آخر تقريرٍ نشره فوكو في "كوريري ديلا سيرا" عن الأحداث في إيران. النبرة مختلفة الآن، كلمة الثورة موضوعة ضمن اقتباسين، ونهاية النصّ تحصر المتوقَّع في مستويَيْن. الأول هو تحالف مُرجَّح لرجال الملالي مع جزء من قادة الجيش في النظام السابق، ورتق جروح "الحرس الثوري" الحالي بالجلد الصالح للاستعمال من جسد "السافاك" السابق. والثاني هو بقاء الجماعات الماركسية- اللينينية وحيدة في دخان سجائر أعضائها، وفقدانها أيّ قدرة تأثير على الجماهير. توقّعات فوكو حول التأثيرات السياسية للثورة الإيرانية تحقّقت أيضاً. أشار بأنّها ستقلب كلّ الحقائق السياسية في منطقة الشرق الأوسط، وستجلب انتباه القوى الكبرى الحريصة على "التوازن الاستراتيجي العالمي" وحذّر من إمكانية "إشعال هذه الثورة لكلّ المنطقة".

عدوى الثورة الإيرانية آتية من خصوصية محركها العميق: الإسلام. الإسلام ليس كمجرّد طقسٍ ديني محصور في أمكنة العبادة، بل كأسلوب حياة عملي، متّسق مع سرديّة انتماء إلى حضارة وثقافة وتاريخ. الإسلام كـ"بنية تحتية" هو سبيكة النحاس الناقلة لتيار الثورة إلى كلّ أصقاع العالم الإسلامي. في نفس الوقت، حذّر المفكر الفرنسي من ردّات الفعل الخاطئة إزاء الواقع الجديد الذي ستفرضه الثورة، بقوله: "من يريد أن يتعامل بذكاء وهدوء مع تداعيات الثورة الإيرانية من المثقفين والمهتمين في الغرب، لا يجب، في أي ظرفٍ من الظروف، أن يبث خطاب الكراهية ضد المسلمين كبشر". وهذه حساسية مبكرة متوقّعة من مثقف وكاتب بمكانة فوكو. 


الشكل والمعنى

في التقارير التي أنجزها فوكو دقة تفصيلية وموهبة صحافية مفاجئة وعمق تحليلي، خصوصًا في النصوص التي نشرها في خريف وشتاء عام 1978، لمّا كان في إيران بجسده، والأوضاع مفتوحة على كلّ المصائر. لم يكن معروفاً كيف ستتطور الأمور داخل مسارات الثورة. ما لاحظه هو وجود "إرادة سياسية شعبيّة" متفقة على مطلب بسيط وواضح: ضرورة إزالة نظام الشاه. الإرادة تجسّدت بلا شك في شخصية الخميني. لعلّ النصّ الأكثر إثارة للجدل هو تحليله للطاقة السياسية الموجودة في المعتقدات الدينية، واستخدامه المشهور لمصطلح "الروحانية السياسية".

سرعان ما اتُّهم فوكو، ومنذ لحظة نشر مقالاته بالمناسبة، بأنّ توقعاته عن الثورة الإيرانية مُبالغة في مثاليّتها. لم يُقم فوكو أيّ وزنٍ تحليلي للطابع السلطوي لشخصيّة الخميني السياسية. لم يُعبِّر عن أيّ خوف أو قلق من طبيعة الدولة الخمينية المقبلة، وإمكانية بترها لكلّ الحريات الفردية، وخنق الطابع الاجتماعي التقدمي للثورة. مصطلح "الروحانية السياسية" استخدمه لأغراض تحليلية، إذ من الواضح أنّ المحتوى الديني الشيعي، كفقه وتراث ونصوص قرآنية وتفسير، لم يهمه أبداً. اعتماداً على قراءاتي لتقارير فوكو حول إيران، أزعم أنّ معرفته النظرية بالمذهب الشيعي لم تكن متطوّرة. ما همّه، هو أنّ الدين "شكل" قادر أن يصبح وعاءً لـ"معانٍ" سياسية تحرّرية.

الدين هو "الشكل" القادر على استيعاب وهيكلة الغضب الشعبي وكراهية السلطة. استيعاب يعيد إنتاج هذا الغضب ويحوّله إلى طاقة سياسية. أزعم أنّ هذا التصوُّر يحمل مشكلة، لأنّه يفترضُ إمكانية فصل "الشكل" عن "المعنى" في الخمينية السياسية (و"أخواتها" من جماعات الإسلام السياسي المعاصر بالمناسبة). الإسلام السياسي لا يقبل أن يكون وعاءً حيادياً، وشكلاً تحت خدمة معانٍ تحريرية. شكل الخمينية السياسية لا ينفصل عن معناها. ومحتواها الخاص، والمقصود هنا نظام الملالي وولاية الفقيه والنظرة إلى العالم والجسد والمرأة، قادر على إذابة وطرد أيّ معانٍ ومضامين تحررية. الخطأ هو افتراض إمكانية فصل الشكل عن المعنى. 


أصل الالتباس

ما قاد فوكو إلى مصطلح "الروحانية السياسية" وافتراض فصل الشكل عن المعنى في الإسلام، هو ما رآه في شوارع طهران في خريف عام 1987، وما وصفه بـ "القوة السياسية للعقائد الدينية". ذكّرت المشاهدات المؤرّخ الفرنسي بمقاطع من أرشيف التاريخ الأوروبي. في أحد نصوصه، يتحدّث عن رجل الدين الإصلاحي الإيطالي، جيرولامو سافونارولا Girolamo Sanovarola الذي عاش بين سنتي 1452 و1498، وهو من أهمّ دعاة التجديد المسيحي. يروي فوكو اقتباساً من أحد خطاباته: "البشر الذين يقولون: لا، هم من قرروا أن يخاطروا بحياتهم على أن يعيشوا في ظلّ حكم معين".

ويأتي بسيرة تمرّد مدينة مونستر في ألمانيا بين عامي 1534 و1535، إذ قررت حركة إصلاح جذرية بروتستانتية الاستيلاء على السلطة في المدينة وتطبيق نظامها الخاص. انبثقت الحركة من هامش النقد الذي وسّعه الإصلاح اللوثري في المسيحيّة. حركة الإصلاح هذه، تحوّلت إلى موجة تمرّد أطلقت على نفسها "حركة تجديد المعمودية" Wiedertäufer. كانت الحركة ثوريّة جداً على الصعيد الاجتماعي ونددت بالفساد الديني وحكم الاستبداد واستغلال الفقراء. دعا روادها إلى العدالة التوزيعية وإلغاء هيمنة رجال الدين ومنع الملكية الخاصة وتحريم التعامل بالمال وفرض تعدد الشركاء الجنسيين، في شكل فريد من نوعه من أشكال الأناركيّة الشيوعية الدينية. زعيم الحركة، مليكور هوفمان Melchior Hofman آمن بنهاية العالم الوشيكة، وبأنّ مدينة مونستر ستصبح "القدس الجديدة" لتحكم العالم.

فوكو إذاً، يريد أن يقارن بين حالتين: حركة تجديد المعمودية والطاقة السياسية لرجال الدين الإصلاحيين البروتستانتيين من جهة، والثورة الإيرانية والطاقة السياسية لآية الله الخميني من جهة ثانية. ورغم وجوه تشابه بين التجربتين، من حيث الرؤية الخلاصيّة إلى التاريخ: نهاية العالم عند هوفمان والمهدي المنتظر عند الخميني، إلّا أنّ الاختلاف أعمق بكثير. الاختلاف هو أنّ حركة تجديد المعمودية كانت من تداعيات الإصلاح البروتستانتي داخل المسيحية، وكانت ثورية وتقدمية جداً على الصعيد الاجتماعي، في حين أنّ الخمينية السياسية هي وجه من أوجه تعذّر الإصلاح داخل الإسلام المعاصر، كما أنّها رجعية ومحافظة جدّاً على الصعيد الاجتماعي.


إرنست بلوخ

ثمّة عامل آخر دفع فوكو إلى تبنّي مصطلح "الروحانية السياسية"، وهو تأثّره العميق بكتاب "مبدأ الأمل" Das Prinzip Hoffnung للفيلسوف الألماني الماركسي، إرنست بلوخ، والذي نشره عام 1954. عند بلوخ، التوقعات بالأمل المتجذّرة في بعض الأيديولوجيات الخلاصية، والتي تبشّر بنهاية وبداية جديدة للعالم، هي من تكون قادرة على الحشد والتعبئة. الأمل المطلق هو جوهر أيّ حركة ثورية. والاحتجاج على نمط مُعيَّن من الأنظمة السلطوية العاتية، يتطلّب هذا النوع من الأمل المطلق، لأنّ الاحتكام إلى الحسابات العقلانية لن يؤدّي إلا إلى الركون والسكوت والخضوع والتشاؤم. يظهر هذا الأمل، والذي ليس بالضرورة عقلانياً، في شكل "طاقة خفية" موجودة في روح الشعب. دعا بلوخ إلى التعويل على هذا الأمل من أجل تغيير النظام الرأسمالي، حتّى بدلاً من كتاب "رأس المال".

النقطة العميقة التي أثّرت في فوكو، هو مشهد الناس في الشوارع وهم يواجهون رصاص قوات "السافاك" بـ"الأيدي العارية". في عام 1975 كان قد نشر كتابه "المراقبة والعقاب" وقدّم فيه صورة شديدة السوداوية للذات الفرديّة. الفرد مُستلَب تماماً في ظلّ النظام الرأسمالي، مُغترب عن السلطة، ولا يمتلك مساحة شخصيّة حرة للتفكير، وقدرته على خلق الخيارات معدومة، وأهمّ شيء: لا يستطيع أن يقول "لا". منذ عام 1977 فصاعداً، بدأ يشكّ بدقة وصف الذات الفرديّة تحت هذه الدرجة من الاستلاب الكامل.

أحسََّ بالخلل، وبدأ يفكّر بصوتٍ عالٍ حول جدوى نظرية للسلطة تُقدّم الفرد بأنّه "مصنوع تماماً" و"منضبط بشدّة" و"معادٌ إنتاجه" بشكل حصري بواسطة السلطة. بشكل أدق: إمكانية وَصْف موقف الفرد أمام السلطة، كموقف المخلوق من الخالق. في حوار له مع الباحث اللبناني فارس ساسين (ترجم الحوار الكاتب اللبناني أحمد بيضون في مجلة "كلمن") يروي فوكو بأنّ ما رآه في الشوارع الإيرانية عزّز صحة شكوكه في نظريته حول الفرد والسلطة. البشر دوماً سيجدون طريقة لقول "لا" رغم معرفتهم الواعية والكاملة بأنّ هذه مخاطرة يمكن أن تضع حياتهم على المحك. ما أذهل فوكو هو كيف أنّ طاقة الدين قادرة على إعطاء المنصة للفرد كي يقول "لا".


ردّ وتوضيح

التقارير التي رصدت "كيف تنشأ الفكرة" أثارت جدلاً واسعاً في أوساط اليسار في فرنسا. كسر فوكو الصمت في مايو/ أيار من عام 1979 لما تحدّث في العلن، وللمرة الأخيرة، حول الثورة الإسلامية الإيرانية. في مقالة له في صحيفة "لوموند" دافع عن نفسه، ولم يترك مجالاً للصيد في الماء العكر. ردّ بكلمات واضحة ضد منتقديه الذين اتهموه بأنه يؤيّد الثورة الإسلامية. كتب بوضوح: "لا يوجد أيّ سبب سيدفعني إلى القول بأنّي أغيّر رأيي الآن. الأمور بديهية عندي. أنا ضد قطع الأيدي الذي يقوم به نظام الملالي اليوم، مثلما كنت ضد جرائم السافاك التي قام بها نظام الشاه بالأمس".

ما أثار فوكو هو كيف أنّ البشر يخرجون إلى الشارع بأيادٍ عارية إلى موتٍ محتمل متجاهلين حسابات القوة العقلانية. الإعجاب بالقدرة على قول "لا" لا يعني أبدًا "أنّي أرسم صورة يسارية للثورة أو أقدّم تبريراً ودعماً للنظام الجديد وانتهاكاته". المهم هو حقيقة نهوض الفرد العادي، ورغبته في "إدخال ذاتيته إلى التاريخ، ونفخ الحياة فيها". أزعم أيضاً بأنّه من "الولدنة" اتهام فوكو بأنّه كان مؤيداً سياسياً للنظام الإيراني. ما أثاره هو الجرأة على رفع الرأس في واقع مغلق. واقعٌ لا يقود إلّا إلى اليأس، اعتماداً على منطق الحسابات العقلانية وتوازنات القوى. الذاتية الفردية الكاسرة لـ "السلاسل السببية المنطقية للتاريخ". وهذا بالضبط هو "الروحانية السياسية": هي إعطاء الذات المقهورة الحنجرة لقول "لا".

اللغز الفلسفي بالنسبة إلى فوكو هو قدرة الذات البشرية على التكيف وتغيير معتقداتها وعلاقتها مع نفسها، كي تعارض مجدداً. الطلاب الذين يوصفون بـ"اليساريين" وهم يرفعون شعارات إسلامية، يقومون بإعادة إنتاج ذواتهم على أسس جديدة، كي تمتلك مرّة أُخرى خاصية المواجهة والاحتجاج، وهذه من أكثر "تقنيات الذات" أصالة. رغم آلة القمع المطبَّقة ضدهم، للبشر قدرة على معارضة مسارات التاريخ والمصير المرسوم لهم. اللغز الذي رآه في إيران دفعه لإعادة نظره في مفهوم الذات كما وصفها في "المراقبة والعقاب". ذات الفرد ليست مسلوبة الإرادة ومعدومة الطاقة السياسية، بل هي حيوية وقادرة على تغيير محتواها العقائدي أيضاً وإعادة تشكيل نفسها، على الأقل لقول "لا" لمرّة واحدة.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون