استمع إلى الملخص
- تفنن رجال القانون الدولي في تفسير القوانين لتجنب تطبيق مفهوم الإبادة الجماعية على غزة، مما يعكس ازدواجية في المعايير القانونية والسياسية لحماية الكيان الإسرائيلي.
- تجنب المثقفون الفرنسيون، بمن فيهم ذوو الأصول العربية، إدانة ما يحدث في غزة، مما يعكس تواطؤًا ضمنيًا بين أقطاب السلطة في فرنسا.
منذ أن انطلقت عمليات التقتيل في غزّة، مارسَت الآلة السياسية والإعلامية في فرنسا كلَّ فنون الإخفاء والتضليل حتى لا يشيع عدد الضحايا في ثنايا المشهد الثقافي ولا تفوح فيه رائحة الجثامين فتصير محور نقاش في أوساط تعوّدت الحديث عن كلّ شيء. في هذا الإنكار المُريب، انعقد تواطؤٌ صامت بين رجال القانون والدبلوماسيّين والمثقّفين ووسائل الإعلام؛ فئاتٌ أربع لها سلطة الصدع بالحقيقة، لكن تخلّت عنها بِنيّة مبيَّتة حتى لا يتخلخل بناء الوهم ولا يُنطَق مصطلح "الإبادة".
كانت الخطّةُ بسيطةً للغاية: لا يأتي أحدٌ على سيرة الحرب في غزّة أصلاً، والتركيز كلُّه على معاناة أهالي المحتجَزين الإسرائيليّين أو على الضربات التي يوجّهها جيش الاحتلال لمقاتلي حركة حماس. وإن كان ولا بدّ من ذِكْر عدد ممّن يسقط من الفلسطينيّين، فبكلّ ما في اللغة من صيَغ الحذر والتشكيك وبما تتيحه أساليب "المهنية الصحافية"، مثل: "حسب بيان وزارة صحّة حماس"، صيغة تهدف إلى نزع المصداقية عما تُقدّمه غزّة من معلومات حول الأعداد اليومية لشهدائها.
وتفنّن رجال القانون الدولي في التفريع والتضييق والتوسيع حتى لا ينطبق مفهوم الإبادة الجماعية، كما حدّده "نظام روما" وغيره من الوثائق والمعاهدات الدولية، على ما يجري في غزّة، وحتى يظلّ الكيان بمنأىً عن كلّ جهود قانونية لاتهامه وإدانته. يُطلقون تحديدات منهجية، يضيفون معاني ويحذفون أُخرى في تحليل شديد التعقيد، فقط حتى لا يحيل مصطلح "الإبادة" على فظاعات "إسرائيل". أمّا على غيرها، وفي أيّ عصر من عصور البشرية، فما أسرع ما يُنتَضى المفهوم من مخابئه لإدانة الأتراك والأفارقة والروس وسائر أُمم الأرض.
حتى لا يتخلخل بناء الوهم ولا يُنطق مصطلح "الإبادة"
يخوض الساسة في كبائر الأمور ولا سيما صغائرها، ويدينون كلّ شاردة وواردة تصيب الكيان، تارةً باسم "الإرهاب" وتارةً بعنوان "معاداة السامية"، من غير أن يتكلّفوا مؤنة التنديد بعشرات الآلاف من القتلى. لا خبرَ ولا مداولات ولا تلك المناقشات الطويلة التي تطلَق بمجرّد أن يمسّ أحدهم في الجهة الأُخرى. مثقّفو فرنسا، بمن فيهم كُتّابنا من الأصول العربية، وهُم الذين تعوّدوا التنظير للقيَم الإنسانية العليا وانتقاد بلداننا في مجال الحرّيات وحقوق الإنسان، عزفوا هُم أيضاً عن إدانة ما يجري على مرمى حجر منهم. اعتبروه شأناً غير ثقافي، موضوعاً لا يهمّ الفكر التجريدي ولا مناهج التفكيك. اهتمّوا بأولويات أُخرى مثل إعادة تعريف "العلمانية".
وعلى ذِكر هذه الأخيرة، انشغل رجال الدين، فيما تبقّى من الكنائس، وقد كان فيهم إبان الحرب العالمية الثانية "عادلون" (الذين حموا اليهود من وحشية النازية)، بمعضلات التحرّش الجنسي التي أصابتهم في مقتل. وعلى كلٍّ لا ملام عليهم، فلا صوت لهم سوى أمام ضمائرهم، وحتى هذه الفرصة ضيّعوها، إلّا ما ندر.
ما يلفت النظر ويجرحه هو متانة هذا التواطؤ الضمني الذي حصل بين أقطاب السُّلطة، ولا ندري بأيّ طريقة ولا أين حصل إجماعهم الأخطبوطي الذي احتلّ العقول والألسنة، فأعجزها عن نطق كلمة "إبادة" ومنعها حتى من الإشارة إلى بعض معانيها الحافّة، إمعاناً في الإنكار وحرصاً على مكافحتها كما لو كانت فيروساً قاتلاً، يُوظّف كلّ شيء لطرده من جسد الأمّة الفرنسية ومن عقلها وخطاباتها.
وحتى عندما ينتقد البعض، مثل وزير الخارجية الأسبق دومينيك دوفيلبان، هذا الإنكار ينتقده لا احتراماً لأرواح ضحايا فلسطين وإنّما تخوّفاً على الديمقراطية الفرنسية التي حجبت مثل هذه الحقائق "وأقصت صوتاً كان من شأنه أن يُثري النقاش العام". حتى ضحايانا وسيلة إثراء، كما كانت المستعمرات سابقاً، وكما هو ضنى المهاجرين الآن. المهمّ أن يظلّ المشهد صافياً، أن تنساب الماكينة فلا ينزعج الكبار في صالوناتهم خلال أحاديثهم المسائية حول قطعة جُبن وقارورة نبيذ أحمر، شبيهٍ بلون دماء قانية لشعبٍ يُباد.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس