فلنُحرِّر فلسطين من الثقافة العربية

23 أكتوبر 2023
رجُل يحمل ابنته أمام "المستشفى المعمداني" في غزة بعد قصفه من الاحتلال الإسرائيلي (Getty)
+ الخط -

إجماعٌ على واجب المقاوَمة الثقافية. هذا ما ذهبت إليه أفكار كتّاب ومثقّفين عرب من مختلف الأجيال والمشارب ممّن استطلعت "العربي الجديد" آراءهم حول ما يُمكن للثقافة العربية أن تُقدّمه وما هي أدواتها لخدمة قضاياها، وفي طليعتها قضية تحرير الأرض والإنسان التي تدور رحاها الآن في فلسطين مُعمَّدة بدم أبنائها.



لا يجب أن تكون فلسطين قضيةَ العرب ولا قضية المسلمين، بل أن تكون في موضعها الحقيقي والطبيعي: قضية تحرُّر وطني وكفاح ضدّ عدوّ متوحّش.. قضية حرية الإنسان في مواجهة الاعتداء. يجب ألّا تقع الثقافة العربية1 في الفخّ الذي نصبته الثقافة الصهيونية لنا وللعالم بجعل القضية الفلسطينية صراعاً بين "هويتين"، بين "شعبين"، أو بين "ديانتين"، ومن ثمّ نَنشغل وينشغل العالم بجدل الاستحقاق المؤسَّس على الأسطورة.

فلسطين قضيةُ الإنسان في كفاحه من أجل نيل حريته، ومن أجل حقّه في الحياة، وهو يواجه استعماراً استيطانياً وحشياً يمتح من الثقافة نفسها التي وقفت وراء فظائع المستعمِرين في الكونغو، وفي جنوب أفريقيا، يواجه الإبادةَ نفسها التي واجهها من قبلُ السكّانُ الأصليون في أميركا، حين أتتهم آلة المستوطنين المستعمرين مسنودةً باستحقاق تغذيه الأسطورة لتنتزع أرضهم وخيراتهم وتقتلهم من دون ندم.

أفضلُ ما يمكن أن تفعله الثقافة العربية لقضية فلسطين هو أن تتحرّر هي نفسها من مأزقها البنيوي، الذي يُقعدها كلّما كادت تنهض، ويجرُّها إلى أن تكون ثقافة قابلة للتقوقع في أوهامها الماضوية، والغرق في نرجسيتها الهويوية، وهي تتعثر أنّى تحركت؛ مصابةً بالغيبيات والميتافيزيقيا، غائبة في اعتقاداتها، لتعادي الحرية، أو لتخاف منها.

الثقافة العربية ليست ثورية، وتميل في كلّ محكّ إلى الانغلاق والعودة ماضياً إلى "منطقة راحتها"، متفاديةً مواجهة الأسئلة الصعبة والقضايا الساخنة، تاركةً خلفها خطاباً مُفارقاً للمنطق، ومنبتّاً عن مستقبله، وخائفاً من التحرُّك خارج البكائيات والمظلوميات الكاريكاتيرية، خطاب عاجز عن مواجهة الثقافة التي أنتجته، ومن ثمّ فهي عاجزة عن أن ترى نفسها، وأن تفهمها وتفهم العدوّ وأدواته.

هي ابنة ترويض استمرّ طويلاً، فاختلطت عندها الفوضى بالثورة، والحرية بالخوف، والأمن بالقهر، فلم تعرف كيف تنصر نفسها قبل أن تنصر فلسطين، كيف تفكّ عنها لجام الغيب لتنمو، وليصبح صوتها أكثر وأكبر من رَبْرَبةٍ لا يعيها أحدٌ كما هو الآن.

لا بدّ من كسر الطوق الذي يخنق به الصهاينة العالم: طوق الحقّ الإلهي لشعب "مختار" يواجه "برابرة" لا يُحبّهم الربّ، ومن ثمّ لا يجب أن يتعاطف معهم من يؤمنون به!

لا بدّ من إخراج الصراع من بئر الآلهة إلى خلاء البشر، ليصير كما هو حقّاً: حرب ظالِم على مظلوم، معتدٍ على معتدى عليه، وليس صراع "الطيّب والشرير" الهوليوودي، ولا صراع "وعد الربّ" وخيالات هرمجدون وهذيان المقدَّس! بل هو صراع يحاول فيه لصٌّ بمباركة أحفاد اللصوص السابقين، أن يقنعنا بأن هناك شيئاً اسمه "إسرائيل"، لننسى أنّ اسمها فلسطين، وهي محتلّة، لننسى "فلسطين المحتلّة"، ونُردّد: إسرائيل فعلت، إسرائيل تركت.

فليتحرّر المثقّفون العرب، تتحرّر الثقافة العربية، وتفكّ قيودها عن فلسطين.. فلسطين ليست قضية عربية، ولا إسلامية، هي قضية الحرية، يدافع عنها من يؤمنون بالحرية، ولا يمكن سَجنها في ضيق الهوية، ولا أن تكون قيّمة عليها ثقافة لم تُحرّر نفسها بعد.
 

* أعني بـ"الثقافة العربية" في هذا السياق: الثقافة السائدة في الجغرافيا اللغوية المسمّاة "العالم العربي" وتوابعه، الناشئة من العلاقة الجدلية لتفاعلات آنية مستمرّة مع جذور وأساسات ثقافية وفكرية مشتركة بين مكوناتها "الثقافة العربية"، والتفاعلات الفردية مع هذا المجموع وردود الفعل الجدلية المتمثّلة في دوال تحدّد الاتجاهات والقواعد المفاهيمية المشتركة في نظام بعينه ذي خصائص محدِّدة يمكن اعتبارها نقاطاً مرجعية افتراضية.


** كاتب من السودان

هذه المادّة جزءٌ من ملفّ تنشره "العربي الجديد" بعنوان: "الثقافة العربية واختبار فلسطين... ما العمل؟".

لقراءة الجزء الأوّل من الملفّ: اضغط هنا

 
المساهمون