يُحاول كتاب "فلسطين: مسائل في الحقيقة والعدل"، للمفكّر العربي عزمي بشارة، سبْر أغوار القضية الفلسطينية وتحليل تطوُّرها منذ بداية المشروع الصهيوني الاستعماري في فلسطين وحتى الآن، مُتوقّفاً عند المحطّات المركزية في تاريخها، وخصوصاً المحطّات الرئيسية التي مرّت بها القضية في الثلاثين عاماً الأخيرة؛ مثل اتفاق أوسلو و"صفقة القرن"، ومقدّماً تحليلاً تاريخياً وسياسياً معمَّقاً للقضية الفلسطينية بعد نكبة 1948.
هكذا يُقدّم الأكاديمي ومدير "مركز مدى الكرمل"، مهنّد مصطفى، الكتاب الصادر بالإنكليزية عن دار نشر Hurst Publishers في لندن العام الماضي، والذي أقام المركز، في مقرّه بمدينة حيفا المحتلّة، ندوة، مساء الخميس الماضي، لمناقشته، بمشاركة كلّ من نديم روحانا؛ أستاذ العلاقات الدولية ودراسات الصراع، ومدير مركز دراسات شرق المتوسّط في كلّية فليتشر للقانون والدبلوماسية بـ"جامعة تافتس"، وزميل بحث غير مقيم في "مدى الكرمل"، وليلى فرسخ؛ الأستاذة المشاركة في العلوم السياسية في "جامعة ماساتشوستس".
الحقيقة والعدل
يقتبس مصطفى جملة من الكتاب يقول بشارة فيها: "لستُ محايداً تجاه أي شيء يتعلّق بقضية فلسطين أو أيّة قضية عادلة أُخرى"، مُعتبراً أنّ هذه المقولة تؤسِّس للكتاب معرفياً وأخلاقياً وسياسياً، فـ"الكاتب ليس مُحايداً في تناوُله لفلسطين، لكنّ هذا لا يمنعه من أن يدرس القضية ويكتب عنها بموضوعية تامّة، ومع انحياز تامّ لها في الوقت نفسه".
يتوقّف المتحدّث عند كلمتَين لفتتا انتباهه في عنوان الكتاب؛ هُما: "الحقيقة" و"العدل". تعني الأُولى، وفق قوله، أنّ فلسطين لا تقبل المساومات السردية؛ فالأمر لا يتعلّق فقط بسردية فلسطينية في مقابل سردية إسرائيلية، بل ثمّة حقيقة ثابتة حول فلسطين، تتمثّل في وجود مشروع استعماري قادته الحركة الصهيونية لتهجير شعب من أرضه، مُضيفاً أنّ هذه الحقيقة غير قابلة لأي نقاش سردي، وهذا هو مفهوم الانحياز لقضية فلسطين.
وبخصوص "العدل"، يشير مصطفى إلى أنّ بشارة يستهلّ موقفه من قضية فلسطين بموقف سياسي أخلاقي يُحدّد مفهومه للعدالة، مفادُه أنّه بأي تعامُل مع قضية فلسطين يتجاوز مفهوم العدالة -العدالة للشعب الفلسطيني والعدالة التاريخية والسياسية المتمثّلة في التحرّر- لا يُمكن الحديث عن أي حلّ سياسي، ويضيف: "يَعتبر عزمي بشارة العدالة عتبة أساسية في أي تعامُل في قضية فلسطين".
ويختتم مهنّد مصطفى مداخلته بالقول إنّ "هذا الكتاب ليس عملاً بحثياً ومعرفياً فحسب -وهو ما يقوله الكاتب- إنّه مسألة شخصية، دمَج بين إنتاج الباحث من جهة، والمشروع السياسي الذي يقدّمه عزمي بشارة من تجربته كمناضل فلسطيني اشتبك مع القضية الفلسطينية، وكان جزءاً منها".
عدم الانحياز موقف لا أخلاقي
يلفت الأكاديمي نديم روحانا، في مداخلته، إلى أنّ كتاب "فلسطين: مسائل في الحقيقة والعدل"، الذي يشير إلى أنّه صدر عن دار نشر مهمّة ويقع في 342 صفحة، هو عن فلسطين، وليس عن "إسرائيل"، ولا عن الصهيونية، ولا عن الصراع العربي الإسرائيلي، ولا عن الحلول السياسية، على الرغم من أنّه يعالج بإسهاب هذه المواضيع، لكنّه "يُعالجها كما تتعلّق بالموضوع الرئيسي الذي يشغل المؤلّف في الكتاب كما ينعكس في عنوانه، وكما يَظهر أيضاً في اختياره للغلاف" المستوحى من التطريز الفلسطيني.
ويَعتبر روحانا أنّ الكتاب مُميَّز عن كثير من الكتب في هذا المجال لمؤلّفين كبار؛ ليس لأنّ الكتب الأُخرى غير مهمّة، بل لفرادة ما يُحضره المؤلّف في دراسته ونقاشه، مُضيفاً: "عزمي بشارة، رغم تواضُعه في تقديم نفسه بأنّه ليس متخصّصاً في دراسة التاريخ الفلسطيني، ولا في إسرائيل، ولا الصهيونية، فإنّه يُظهر في الوقت نفسه إحاطة أكاديمية مُدهشة بكلّ ما تقدَّم، ويَعتمد في دراسته على باحثين فلسطينيّين وإسرائيليّين وعرب وغربيّين. وبالإضافة الى الإحاطة الاكاديمية، يُحضر بشارة إلى الكتاب المعايشة الأكاديمية والسياسية، والمعرفة الحميمة بالمجتمَعين الفلسطيني والإسرائيلي، والمعرفة بالعالم العربي الأوسع، ويُحضر التجربة السياسية والتنظيمية، والاطّلاع على التاريخ الأوروبي الحديث الذي يستحضره عند الحديث عن المسألة العربية والمسألة اليهودية وتشابُكهما؛ كما حدث في قضية تصدير قضية اللاسامية الأوروبية إلى العالم العربي".
يتميّز الكتاب أيضاً، وفق روحانا، بـ"الحذر الأكاديمي والدقّة، واعتماده على مصادر متعدّدة، وإعطائه الدارسين الفلسطينيّين على وجه خاصّ، من جيل المؤسِّسين إلى الأجيال الشابة، حقّهم في الإشارة إليهم وتقدير عملهم".
تصوُّرٌ لمُقوّمات استراتيجية تحرُّرية طويلة المدى
يضيف روحانا بأنّ العمل يعتمد على دراسات سابقة للمؤلّف حول مسألة فلسطين، ويُحضر استنتاجاته من دراسات ومقالات ومحاضرات سابقة له في الثلاثين سنة الأخيرة، وأنّه "لا يخاطب القارئ الغربي فقط، بل كلَّ من يريد أن يتعمّق في معرفة القضية الفلسطينية، مُشدِّداً على قضايا العدل والحقيقة. وعند هذا التشديد، لا يريد المؤلّف، كما ذكر، أن يكون حيادياً، بل يعتمد ما يُسمّيه الموضوعية العلمية النقدية التي تَعني استخدام الأساليب العلمية والمعطيات المتوفّرة، وتعني القيام بالمجهود الواعي لتجنُّب الانتقائية في البحث عن الحقائق وعرضها، وتَعني أيضاً عدم السماح للمواقف الأيديولوجية والحُكم القيَمي بالتأثير في عمليات التحليل المنطقي".
بعد قراءة الكتاب ومُراجَعته الحذِرة، وفق تعبيره، يخلص روحانا إلى أنّ المؤلّف نجح في ذلك؛ فـ"هو لا يتجنّب النقد والانتقاد، بأسلوب سليط أحياناً، لكنّ ذلك يأتي في سياق المعطيات والتحليل اللذين يبرّران الانتقاد. وكما يقول الكاتب نفسُه "قد تبدو الموضوعية منحازة أحياناً"، مثلاً حين اعتبر الصهيونية نوعاً من أنواع الاستعمار الاستيطاني. لكنّ هذا الانحياز هو أحدُ مركَّبات البحث عن الحقيقة. ليس الحيادُ أسلوباً علمياً، بل هو موقفٌ يلتزم عدم الانحياز، وفي حالات القهر والغبن والاحتلال والاستعمار الاستيطاني، يُصبح عدمُ الانحياز موقفاً غير أخلاقي".
ويرى المتحدّث أنّه ليس من الصدفة أن يبدأ الكتاب بالنكبة، فذلك ليس فقط لتحديد السياق التاريخي للدراسة، بل من أجل التعريف بجوهر الصراع، وإظهار أنّ القضية الفلسطينية ليست معضلة تنتظر "حلولاً سياساتية" خلّاقة أو أفكاراً ابتكارية لإيجاد حلول لها، بل إنّها قضية غبن تاريخي، وحلُّها يتطلّب عدلاً، وإنْ كان عدلاً نسبياً بالضرورة، مُردفاً: "يعتمد العدلُ على مركَّبَين أساسيَّين هُما المساواة والحرية؛ وهذه نقطة يعود إليها عزمي بشارة في كلّ الكتاب، وهي جوهرية في رؤيته".
وبخصوص الحلّ نفسه، يقول روحانا إنّ بشارة يرى أنّ شكْلَ الحلّ تُحدّده الإرادة السياسية، وليس الحلول الخلّاقة ولا المفاوضات في هذه المرحلة، وأنّ على الحلّ أنْ يأخذ بالحسبان أنّ القضية بدأت كمشروع استعماري استيطاني استلزم بالضرورة الاحتلال والتطهير العرقي واستلاب الأراضي والإبعاد والإحلال، وبذلك لا يمكن البدء في هذا الصراع من 1967، وإنّما من جذوره.
في المداخلة، استعرض نديم روحانا الموضوعات الرئيسية التي يقدّمها الكتاب، ذاكراً أنّه يتألّف من قسمَين؛ يضمّ الأوّل ستّة فصول يعالج فيها المؤلّف أفكاراً حول الرواية، أو الأسطورة، أو الدعاية الصهيونية، ويتعمّق في إشكاليات وتعقيدات القضية الفلسطينية وموقعها بين تقاطُع المسألة اليهودية والمسألة العربية، ويُراجع قضية الذاكرة والنسيان، ويركّز في فصلَين على جذور الصراع العربي الإسرائيلي إلى حين تشكُّل السلطة الفلسطينية. أمّا الثاني، فيشتمل على ثلاثة فصول يُقدّم أوّلُها دراسة تحليلية مفصّلَة ومعمَّقة ونقدية لصفقة القرن التي يسمّيها "صفقة ترمب- نتنياهو"، ويُحاول الثاني الإجابة عن سؤال: ما العمل؟ اعتماداً على تحديد الواقع من منظور الأبارتايد والاستعمار الاستيطاني، لكن كمصطلحَين تحليليَّين، وليس كأُطُر تُشير إلى حلول معيَّنة، وفي الفصل الأخير يقدّم الكاتبُ تصوُّراً جريئاً لمُقوِّمات استراتيجية فلسطينية تحرُّرية طويلة المدى.
إحدى القضايا التي يُركّز عليها الكتاب بإسهاب، ويعود إليها في فصوله المختلفة، مثلما يوضّح روحانا، هي أنّ القضية الفلسطينية لا تعود إلى سنة 1967، وأنّها ليست قضية إنهاء احتلال فحسب، ليس لأنّ القضية أقدم من هذا التاريخ، بل لأنّه من الضروري العودة إلى جوهر الصراع وإلى عمقه، مضيفاً بأنّ المؤلّف يأخذ المقابَلة بين "استقلال إسرائيل" وبين النكبة مدخلاً لنقاش مستفيض لأهمّ الأساطير الصهيونية المؤسِّسة وللتناقضات في الثقافة الإسرائيلية، وكيف أنّ أهمّ الأساطير الدينية المؤسِّسة تتحوّل إلى أساطير علمانية في مرحلة معيَّنة، ثم تعود إلى دورها الديني.
يفحص هذا النقاشُ، مثلما يضيف المتحدّث، مصدرَ العسكرة الإسرائيلية، ويُعيده إلى التوتّر السياسي لـ "إسرائيل" مع محيطها العربي، حيث قامت على أنقاض شعب أصلاني، مُنكرة بالكامل الغبن الذي أحدثته، فالعسكرة هي النتيجة الطبيعية مقابل المقاومة الفلسطينية والرفض العربي، كما يفحص التوتّر الجوهري النابع من عدم تمييز الصهيونية العلمانية بين الدين والقومية، وكيف جَنّدت العلمانية المصطلحات والرموزَ الدينية في عمليات الاستعمار الاستيطاني، وأنّه، وعلى الرغم من محاولات علمنتها، لم تنجح في تقليص رموزها الدينية.
الاستراتيجيات لا الحلول
وفي مداخلتها، تَعتبر الأكاديمية ليلى فرسخ أنّ أهمّية الكتاب، الذي قالت إنّه يقع في منطقة رفيعة بين الأكاديمي والعملي، تكمن في أنّه يُعطي للجيل الجديد إمكانية لفهم القضية الفلسطينية، من خلال إعادتها إلى جوهرها، بوصفها قضية استعمار صهيوني على أرض فلسطين، وقضية تهجير للفلسطينيّين من أرضهم، بفعل القوّة وليس بناءً على "حقّ"، مُضيفة أنّ الكتاب يُراجع الأساطير الإسرائيلية ويفنّدها واحدة واحدة.
وتشير فرسخ إلى مسألتَين في الكتاب تعتبرهما على جانب كبير من الأهمّية؛ تتمثّل الأُولى في التركيز على البُعد العربي للقضية الفلسطينية، وهو أمرٌ تقول إنّه مهم بالنسبة إلى الأجيال الجديدة؛ حيث جرى تهميش هذا البُعد بعد أوسلو، أمّا الثانية، فهي حرب 1967 التي كانت نقطة تحوّلية في القضية الفلسطينية؛ حيث "كبّت" الأنظمة العربية قضية فلسطينية بعدها على منظّمة التحرير، مضيفة أنّ هذا التحليل يرى أنّ اعتبار عام 1967 نقطة البداية -وليس النكبة- كانت له انعكاساتٌ خطيرة على القضية.
وتلفت المتحدّثة إلى أنّ بشارة يحلّل طبيعة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، باعتباره مشروعاً كولونياليّاً منذ بدايته، لكنّه كوّن دولة حديثة لديها مؤسّسات، وكوّن شيئاً اسمُه "الشعب الإسرائيلي"، ورسّخ نظاماً أبارتايديّاً. أمّا بخصوص الإجابة عن سؤال ما العمل؟ فيركّز على تبيين معرفتنا بتاريخ الأرض، وبالتاريخ القومي، وهُما أمران يشدّد بشارة على أنّهما منفصلان ولا ينبغي الخلط بينهما، إضافة إلى عدم التركيز على الحلول، بل على الاستراتيجيات التي تسمح بالتخلّص من الواقع الاستعماري، ومن ذلك بناء مؤسَّسات ديمقراطية.
يُراجع الأساطير الإسرائيلية ويفنّدها واحدةً واحدةً
معقّباً على المداخلات والنقاشات التي شهدتها الندوة، كتب عزمي بشارة تعليقاً على فيديو الندوة - مخاطباً المشاركين فيها - بأنّ من الضروري توضيح الفرق بين سكّان البلاد الأصليّين وحقوق الجماعات السكّانية الأصلانية التي أصبحت مقولة قانونية متعلّقة بالشعوب التي تعرّضت للإبادة.
يوضّح: "الفلسطينيّون هُم سكّان البلاد الأصليّون، وهذا أمر مفروغ منه. وقد استخدمتُ هذا التعبير بكثافة كما تعلمون، ولا سيما في سياق الدفاع عن الهوية والصراع على حقوق العرب في الداخل، بوصفهم ليسوا مجرَّد أقلّية ولا ضيوفاً، بل بوصفهم سكّاناً أصليّين. أمّا تعبير حقوق الشعوب الأصلانية، فيستخدم في سياق تعويض الشعوب التي خسرت وطنها، وتعرّضت للإبادة، قبل أن تشمل قومياً/ وطنياً، وذلك بمنحهم حقوقاً على مستوى الثقافة، وأحياناً ملكية الأرض في محميّات وغيرها... في كندا وأستراليا (والولايات المتّحدة بدرجة أقلّ). الفلسطينيون سكّان البلاد الأصليّون تشكّلوا قومياً أوّلاً كعرب ثمّ كفلسطينيّين قبل نشوء إسرائيل. وقضيتهم قضية وطنية وقضية عدالة شعباً وأفراداً. ولم يُسلِّموا بفقدانهم وطنهم أو باندثارهم كجماعة قومية. وما زالوا يطالبون بحقوق وطنية ومدنية، سواء أكان ذلك في دولتَين أو في دولة واحدة".
* تغطية فيديو: ناهد درباس - حيفا