في كتابه "سيبويه مُعتزليّاً" (المركز العربي، 2015) نبّه الباحث اللغوي إدريس مقبول على مسألة دقيقة في تاريخ النحو العربي، ألا وهي اشتباك هذا العلم المنطقي بدوائر وحلقات المُتكلّمين التي انتعشت في القرن الثاني الهجري. ذلكَ على وقع الانتقال بالعربية حضارةً ولغةً، من تقاليد الشّفاهية إلى ما يُمكنُ وصفُه بثورة التّدوين.
مع "سيبويه مُعتزليّاً" لا نقف على أطلال أشهر مدرستين نحويتين في تراثنا "البصرة" و"الكوفة" إلا لنكتشف مدى الإرث العقلاني الضّخم الذي تركه أرباب الصّناعة، من الخليل بن أحمد وسيبويه وصولاً إلى ابن جنّي والزمخشري.
أستذكرُ ذلك الكتاب وأنظرُ إلى ما فيه من إرث ضخم وأتساءل: من يتولّى النحو اليوم؟ ومن يحقّق أُصوله؟
قد يظنّ المرء أنّ الجامعات والمؤسسات البحثية هي الاستجابة المعقولة والوحيدة لذلك التّحدي، إلى أن يُطالع سيرة مصعب أبو توهة (1995)، الشّاب الذي يعيشُ في غزّة المحاصرة منذ عقدين، وتمكّن من إنجاز أكثر من عشرة تحقيقات لأهمّ أصول النّحو؛ في ظروف أقلّ ما يقال عنها إنها مأساوية، يسدّ فيها الاحتلال الصهيوني منافذ الحياة من أبسط أمورها كالكهرباء والاتصال بالعالم، فما بالك بالبُنى التحتية التي يحتاجها المرء لخوض مجالٍ حسّاس ودقيق مثل التّحقيق. لذا يصحّ القول إنّه على يدي مصعب صار النحو فعل تحرّر، وصار تحقيقه نافذة مشرعة.