فضائل بيت المقدس.. تأكيد تاريخيٌّ على خطاب التحرير

17 مارس 2024
فلسطينيون يؤدون صلاة الجمعة الأولى من شهر رمضان رغم قيود الاحتلال، 15 مارس 2024 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- كتب الفضائل تبرز أهمية بيت المقدس في الإسلام، مستندة إلى القرآن والأحاديث، وتعكس الارتباط العميق بين المسلمين وهذا الموقع المقدس، مؤكدة على دوره في الهوية الإسلامية والتاريخ الديني.
- تعتمد هذه الكتب على فصول قصيرة تسلط الضوء على فضائل بيت المقدس، معززة الوعي الاجتماعي والنفسي لدى المسلمين، وتحفز على الدفاع عن المدينة المقدسة والصمود أمام التحديات.
- على الرغم من تقلص عددها في العصر الحديث، القدس تظل محورية في الوعي الإسلامي، متجلية في الخطاب السياسي والأعمال الثقافية المعاصرة، مؤكدة على استمرار الارتباط الروحي والتاريخي وأهميتها كرمز للهوية والمقاومة.

واقعةً في مفترقٍ بين العقيدة والتاريخ، تبرز كُتب الفضائل كجنس خطابٍ، بات مهجوراً إلى حدٍّ كبير في أيامنا، غايته التعريف بالأفضليّة الدينيّة التي تكتسيها بعض الشخصيات والأزمان والأماكن في الضمير الجمعي. وقد شكّل بيت المقدس أحد أبرز عناصر هذه المدوّنة في الكتابة العربية، وذلك تجسيداً لموقعه كواحد من المواطن المقدّسة في الضمير الإسلامي، وهو ما يلخّصه القول السائد: أولى القبلتَين ومسرى النبي محمد.

وأوّل ما يُمكن وضعه ضمن مدوّنة فضائل بيت المقدس هو النص القرآني. ففيه إشاراتٌ كثيرة صيغت بأسلوب التعظيم حتى سُمّيت إحدى سُوره بسورة "الإسراء"، احتفاءً بمحطّة أساسية في مسار النبوّة المُحمّدية ارتبطت ببيت المقدس، ومن ثمّ رُويت عن النبي أحاديث عن تلك الرحلة كان بيت المقدس في صميمها. وهو كذلك جزءٌ لا يتجزّأ من سير أنبياء آخرين، لا تزال الشواهد في القدس تُومئ إلى آثارهم.

مدونة متجذرة في الضمير الجمعيّ والنّتاج الثقافي الإسلامي

فإذا أضفنا ارتباط كبار الصحابة مثل عمر بن الخطاب وبلال بن رباح، ومعاذ بن جبل بهذه المدينة المباركة، علمنا دوافع المسلمين، قديماً وحديثاً، إلى عدّ هذه المدينة إحدى مكوّنات الفضاء الروحي المُشترك، بل هم يرتبطون بتراث مشترك مع الأمم السابقة، إذ لم تُهمل مدوّنة القدس ما في المدينة من آثار أنبياء بني إسرائيل الذين طبّقت عليهم مقولة: "شرعُ مَن قبلنا شرعٌ لنا" واعتبرت رسالاتهم إعداداً لظهور الإسلام وتهيئة للعقول حتّى تتقبّل مبدأ التوحيد وشرائعه، وبذلك أعاد المسلمون امتلاك تاريخ الأنبياء وتبنَّوه، لأنّ الإسلام لا "يفرّق بين أحد منهم"، وهو ما يَسّر عمليّة دمجهم في التاريخ المقدّس.

ويمكن أن نحصي ضمن هذه المدوّنة أكثر من مائة كتابٍ عربيّ أُلّفت طيلة القرون الماضية، تتبّعَ تواريخَها ومضامينها الباحث شهاب الدين بهادر في كتابه: "معجم ما أُلّف في فضائل وتاريخ المسجد الأقصى والقدس وفلسطين"، ومن أشهر هذه المؤلّفات "فتوح بيت المقدس" لإسحق بن بشر، "مَن نزل فلسطين من الصحابة" لموسى بن سهل، "قضاة فلسطين" لأبي زَرعة الدمشقي، "فضائل بيت المقدس" للوليد بن حماد الرملي. ويبقى أشهرها "فضائل بيت المقدس" لابن الجوزي. كما نجد هذه المناقب مبثوثة في كتب التاريخ وتفسير القرآن وأدب الرحلة، ممّا يؤكّد تجذُّرها في الضمير الجمعيّ وحضورها القويّ في سائر أجناس النّتاج الثقافي العربيّ الإسلامي. 

فضائل الأقصى - القسم الثقافي

وأما بِنية هذه الكتب فتقوم على فصول قصيرة مادّتها روايات وأخبار دينيّة وتاريخيّة مثل آيات القرآن والأحاديث النبويّة التي وردت في فضل بيت المقدس، وقد يُعرّج على أقوال المفسّرين التي أغنت نصوص القرآن. ولئن بدت هذه الأخيرة في الظاهر محدودة فهي قاطعة الدلالة على المكانة العليا للقدس. 

وليست العبرة هنا في صحّة هذه الروايات ولا في ثبوتها من عدمه، وإنما في مدى سعة وظائفها الاجتماعية والنفسيّة لدى أجيال المسلمين. فقيمة هذه الأخبار، بما فيها الضعيفة والواهية، أنها أهابت بالمجاهدين حتى يحرّروا بيت المقدس من الصليبيين في القرون الوسطى. ولعلّها تفعل اليوم الفعلَ نفسه، خصوصاً إذا ما بُعثت في أشكال معاصرة، فتحرِّكُ المناضلين وتشحذ هِمَمهم.  

تقلّص عدد كتب فضائل بيت المقدس بسبب تداعيات الحداثة

ويثبت التأكيد المتواصل اليوم في خطاب المقاومة على محورية الدفاع عن بيت المقدس أنّ مكانته المعنوية ليست من الماضي ولا انقضى عهدها، وإنّما هي فكر حيّ يعيش في وجدان الأمة الإسلاميّة على تباعد ديارها، وهي من المشتركات القليلة التي تحرّك مشاعرَهم على امتداد التاريخ والجغرافيا. 

ولهذا التراث بعدٌ سياسيّ، إذ كان بمثابة ردّ فكريّ على فظاعات الحروب الصليبية التي أدّت في مرحلة أولى إلى افتكاك بيت المقدس من المسلمين إلى حين تحريرها على يد صلاح الدين الأيوبي. وعليه كانت هذه الكتب ضرباً من المقاومة واستمراراً لواجب المجاهدة الذي أبلى عبره المسلمون البلاء الحسن دفاعاً عن دينهم وأرضهم. 

وفي هذه الكتب أيضاً نضالٌ رمزيٌّ ضدَّ بعض الخطابات اللاهوتية، اليهودية والمسيحانيّة، التي تدّعي الامتلاك الحصري لهذه المدينة بوصفها رأس مال رمزيّاً، لا يمكن للمسلمين المشاركة فيه ولا الانتماء إليه. فتهدف كتب الفضائل إلى تثبيت الحق الإيماني في هذه الأرض المقدّسة ثلاثاً، كسراً لأوهام التفوّق العِرقي والديني.  

وتبعاً لتأكيد الباحثين المعاصرين على الحضور القوي للعامل الأسطوري في هذا النوع من المدوّنات، بحيث لا يكون التاريخ إلّا طبقةً من الأحداث قبل أن تأتي الذهنيات الغيبية لتملأ فراغاتها فتصير المدن الرئيسية في هذه المصنّفات بمثابة "مدن فاضلة"، فإنّ نموذج المدوّنة المقدسية يُثبت فاعلية هذه الأسطرة في العديد من السياقات، إذ من دون استكناه هذا الارتباط القوي بين المسلمين وبيت المقدس ستُغفل التحليلات الجيوسياسيّة؛ أحد المحرّكات التي تغذّي الصمود الفلسطيني في وجه العدوان الإسرائيلي المستمرّ منذ نهوض المشروع الصهيوني، أي لأكثر من قرن تتابعت فيه الأجيال دون أن تفرّط في ارتباطها ببيت المقدس. 

وفي هذا الإطار، نلاحظ تعسّر الفهم لدى النخب الغربية السياسية والأكاديمية، للقيمة الرمزية لبيت المقدس عند المسلمين، ولعل ذلك يعود إلى أن منعطف الحداثة أخفى هذا النوع من العلاقات الروحية التي يعقدها الناس مع المكان في الغرب، فبات من الصعب قياس علاقة المسلمين بالقدس بما هو معروف لديهم.  

هذا وقد تقلّص عدد كتب فضائل بيت المقدس في الأزمنة القريبة بشكلٍ ملحوظ. وقد يبدو ذلك من تداعيات الحداثة بعد أن فرضها الغرب في البلاد الإسلامية، لكن في الحقيقة لا يتعلّق الأمر إلّا بعزوف عن جنس خطاب بعينه؛ تضاءلت كتبُ فضائل بيت المقدس لكن تعظيم القدس حاضرٌ عبر أنماط خطاب جديدة تلعب الأدوار نفسها في استعادة اللحظات التأسيسية للأمة وربطها بأماكن بعينها.

باتت القدس حاضرة عبر الأغنية والشعر المعاصر والأفلام، الروائية منها والوثائقية، ناهيك عن محوريّتها في الخطاب السياسي المقاوم. ويمكن أن نضيف ظهور الكتابات التاريخية الحديثة التي تستند إلى المنهجيات البحثية والعمل على تفنيد المغالطات الصهيونية حول تاريخ مدينة القدس. وفي المقابل يُنتقد اليوم خنوع بعض الخطابات السياسية العربية من خلال الوقوف على تهميشها للقدس. 

هكذا، ظلّ الكتّاب القدامى في فضائل القدس، ورغم المسحة الدينية لمصنفاتهم، متجذرين في كثافه التاريخ، أي في حاضرهم السياسي، متشبثين بتلك الديار حقّاً وأرضاً، لا يسمحون للغزاة القادمين من أقاصي بلاد الفرنجة أن يحتلّوها باسم أساطير واهية، وبذلك فتحوا نهجاً لمن يلحقهم كي لا يسمحوا باحتلال جديد باسم أساطير توراتية. لقد كانت كتب الفضائل مواءمة نادرة بين شفافية الروح وكثافة التاريخ، وحّدت بينهما "زهرةُ المدائن".  


كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس 

المساهمون