يُعتبَر فالوين صار، من دون شك، من المثقّفين الأكثر نشاطاً وتأثيراً على الساحة الأفريقية؛ فهو ينتمي إلى جيل جديد من المفكّرين يجتهد بشكل ملحوظ لإعادة النظر في قضايا ومستقبل أفريقيا. صار من مواليد سنة 1972 في جزيرة نيوديور الواقعة جنوب داكار وحاصل على دكتوراه في علم الاقتصاد من "جامعة أورليون" بفرنسا. وأكثر ما يلفت الانتباه في مساره هو تعدُّد اهتماماته ومواهبه؛ فهو أستاذ جامعي وعالم اقتصاد وكاتب روائي وناشر وفنان موسيقي.
ولعلّ هذه القدرة على الانتقال من مجال إلى آخر قد أثّرت بشكل كبير على تنوّع مساهماته الفكرية ورؤيته الشمولية لقضايا القارّة الأفريقية وأسئلة زمننا الراهن. اشتغل فالوين صار منذ سنة 2007 أستاذاً للاقتصاد في "جامعة غاستون بيرجي" بمدينة سانت لويس، وتقلّد منصب عميد شعبة العلوم الاقتصادية والتدبير في نفس المؤسسة. وفي سنة 2020، التحق بـ "جامعة ديوك" الأميركية في مدينة دورهم بولاية كارولاينا الشمالية، حيث يشتغل الآن أستاذاً للدراسات الفرنسية والفرنكوفونية. ولعل هذه الخطوة لا تشكّل منعطفاً هامّاً في مسيرته الجامعية فحسب، وإنما إضافةً نوعية لتواجد ونشاط المفكّرين الأفارقة في الولايات المتّحدة الأميركية.
تركّز أبحاث صار على السياسات الاقتصادية واقتصاد التنمية والاقتصاد القياسي، إلى جانب نظرية المعرفة وتاريخ الأفكار الدينية. وتتّسم أعماله بميلها القويّ نحو التأمُّل والإبداع الفكري والنقد البنّاء؛ فأوّل أعماله نص أدبي نُشر سنة 2009 تحت عنوان "داهج"، وهي الصيغة المعكوسة لكلمة "جهاد"، في إشارة إلى المجهود الفردي الذي يتطلّبه إرساء القيم الروحية والبحث عن الحقيقة الذاتية في أبعادها الجسدية والنفسية والأخلاقية.
وعلى غرار مجموعته السردية "105 زنقة كارنو" (2011)، غالباً ما تنطلق كتابة صار من تجاربه الشخصية المشبعة بخصوصيات موطنه في السنغال، لتصوغ رؤية صادقة عن الإنسان الأفريقي وانتظاراته وشتّى التحدّيات التي تواجهه. يكتب صار عن طفولته السنغالية ويستحضر الفضاءات الحضارية وتجاربه الدراسية والأدبية. أمّا أسلوبه، فإنه يبتعد عن الصور الفلكلورية ويتفادى الطابع المثير أو المأساوي الذي غالباً ما يشوب الكتابات المتعلّقة بالقارة الأفريقية؛ فأذنه الموسيقية وقدرته على التقاط مشاهد الحياة اليومية تضفيان على نصوصه بعداً إنسانياً يلفت الانتباه.
يفتح صار المجال لحوار جوهري حول الهوية الأفريقية
وفي مقدّمته لكتاب صار "تأمّلات أفريقية" الصادر سنة 2012، يشير المفكّر السنغالي سليمان بشير ديان إلى أنّ عمل مُواطنه يستهدف كلّ قارئ معنيّ بكل ما يهم الإنسانية؛ إذ إنه إنتاج جسد وعقل في حركية دائمة. يحث صار في كتابه ذاك، كما في باقي إصداراته، على أهمية التأمّل الذاتي لمواجهة الحياة اليومية بشكل متحرّر يتيح الفضاء للكتابة والإبداع وإعادة النظر في القضايا الاجتماعية والرهانات الاقتصادية والسياسية. ولهذه الغاية، يمزج صار بين الأجناس الأدبية ويجعل تأمّلاته تنبع من يوميات وأفكار وجيزة وأقوال مأثورة ومقتطفات سردية. ونفس هذا التنوّع يجده القارئ في كتاب "إشندنشن" (2017) الذي يضمّ نصّاً مسرحياً وقصائد وكلمات غنائية، إلى جانب نصّ موجز يحمل عنوان "لماذا أنا شاعر!" يرفض فيه صار كلّ أشكال الهيمنة الفكرية والتسلّط السياسي والإخضاع الاستبدادي، ويفسّر كيف أنّ الإبداع الفنّي يفتح المجال لتحقيق الذات ومخاطبة روح الإنسان.
تندرج أعمال صار في إطار مبادرة فكرية جادّة للخروج بالعقل الأفريقي من الخطابات التشاؤمية والتصوّرات الانهزامية التي ما زالت ترافق القارّة ومفكّريها. ولعل أبرز مساهماته في هذا المجال كتابه "أفروتوبيا" الصادر سنة 2016؛ إذ حظي باهتمام بالغ في الأوساط الثقافية والأكاديمية، وتجري حالياً ترجمتُه إلى اللغة العربية.
يدعو صار، في كتابه هذا، إلى ضرورة التخلّص من منطق المقارنة والمنافسة العالمية وضغوطات التنمية الاقتصادية التي ما فتئ الغرب يمليها على القارّة الأفريقية؛ ذلك أن مستقبل أفريقيا، في نظر صار، يكمن في بناء فضاء جديد للإنتاج يستمد طاقته من الإمكانيات الاجتماعية والثقافية للقارّة. ويتميّز هذا التفكير المستقبلي باستبعاد كلّ أشكال الطوباوية العقيمة، ويرتكز بالأساس على ضرورة قيام ثورة ثقافية ولغوية تستطيع القارة الأفريقية بفضلها أن تعبئ إرثها الحضاري وتسترجع سيادتها الفكرية. وتتطلب هذه الثورة، حسب صار، إعادة النظر في العلاقة التي تربط المجتمعات الأفريقية بتقاليدها وعاداتها، وإرساء ثقافة ديمقراطية تنبني على استثمار فضاءات النشاط السياسي وإعادة صياغة المفاهيم والاستراتيجيات الاقتصادية على أسس سوسيوثقافية، وبذلك تعطى الأولوية لمتطلبات الأفراد والمجموعات، وترسّخ قيم التضامن والتكافل التي تمتاز بها المجتمعات الأفريقية التقليدية، بدل هيمنة النظرة الاقتصادية الخالصة ومنطق مؤشّرات التنمية المفروض من داخل القارة وخارجها على حد سواء.
لم تقف مجهودات فالوين صار عند التنظير والتأمّل في قضايا القارة الأفريقية؛ ففي نهاية تشرين الأوّل/ أكتوبر 2016، نظّم برفقة المفكّر الكاميروني أشيل مبيمبي الدورة الأولى لما سمي "ورشات الفكر" بداكار وسان لويس، وهي مجموعة لقاءات ومحاضرات حول واقع ومستقبل القارّة في خضم التحوّلات الراهنة على المستوى العالمي. عرفت هذه الورشات مشاركة عدد من المثقّفين والباحثين والجامعيّين والفنّانين الأفارقة، بمن فيهم المقيمون في الخارج، انكبّوا على مناقشة أسئلة جوهرية كمصير التركة الثقافية لفترة ما بعد الاستعمار والأشكال الجديدة للعمل السياسي والمشاركة المدنية والمواضيع المتّصلة بالهوية الأفريقية والعلاقة مع الآخر والتحديات اللغوية.
وفي آذار/ مارس 2018، كلّفت الرئاسة الفرنسية فالوين صار، إلى جانب مؤرّخة الفن والجامعية بندكت صفوى، بالبحث في قضية الإعادة المؤقّتة أو الدائمة للتحف الفنية للبلدان الأفريقية جنوبي الصحراء التي نُهبت منها في فترة الاستعمار. وشملت هذه المهمة لقاء عدد من الخبراء الأفارقة وسلسلة زيارات إلى عدد من الدول كمالي وبنين والكاميرون، وأسفرت عن نشر تقرير مفصّل يضمّ جرداً للإرث المعني وكذا الأسئلة القانونية والعملية المتعلّقة بإعادة التحف. وقد اعتبر بعض الملاحظين أنّ هذه المبادرة، إذا ما جرت بلورتُها بشكل ناجع وكامل، ستشكّل خطوة هامّة نحو فتح صفحة جديدة في العلاقات بين فرنسا والبلدان الأفريقية.
سوف يجد القارئ العربي بشكل عام، والمغاربي بشكل خاص، في أعمال فالوين صار نموذجاً لفكر بنّاء وملهم في آن واحد. وقد يُذكّر تنوُّع اهتماماته وطموح رؤيته الإصلاحية والمنفتحة على العالم بمساهمات بعض المفكّرين العرب الكبار، وعلى رأسهم المغربي عبدالكبير الخطيبي؛ فإذا كان مفهوم "الأفروتوبوس" عند المفكّر السنغالي يشير إلى ذلك "الفضاء المغاير" الذي يستوجب قراءة نقدية ومتعدّدة الأبعاد للواقع الأفريقي ويسمح بتحقيق الإمكانيات الثقافية والفكرية للقارّة، فهو بذلك يعيد إلى الأذهان دعوة الخطيبي - لا سيما في تصوّره للمغرب العربي - إلى تطوير فكر "مغاير" و"تعدّدي" ينبني على نقد الذات والآخر، ويستثمر أوجه التبايُن بغرض المساءلة المستمرّة والمثمرة. بالإضافة إلى ذلك، يفتح صار المجال لحوار جوهري حول الهوية الأفريقية، وما من شك أنّ عدداً من أفكاره وتأمُّلاته يصلح كمصدر إلهام أو كأرضية للحوار بين المفكّرين المهتمّين بشأن القارة الأفريقية، ولا سيما علاقات البلدان العربية بنظيراتها جنوب الصحراء.
وإذا كان فكر صار يتجاوز إطار القارّة الأفريقية ليهتم بقضايا ذات طابع كوني وإنساني، فإن هذا البعد يتجلّى بشكل أوضح في كتيّبه الصادر سنة 2017. كتب صار "كيف نسكن العالم" بين مدينتَي نانت الفرنسية وداكار السنغالية، وما صدوره في مونتريال الكندية إلّا دليل آخر على الامتداد العالمي لأفكاره. وفي نفس السياق، يمكن قراءة الكتاب كرسالة مفتوحة يوجهها المفكّر السنغالي إلى العالم، ويواصل فيها مناقشة أسئلة سبق أن تطرّق إليها في أعماله السابقة؛ يتعلق الأمر هنا بـ "كوسموتوبيا" أي برؤية مستقبلية لا تنحصر في الإطار الأفريقي (كما الشأن في كتابه "أفروتوبيا")، بل تسعى إلى بناء تصوُّر كوني للعلاقات وتَعتبر الكون في حدّ ذاته فضاءً لبلورة وتطوير هذه العلاقات بجميع أشكالها.
وفي هذا الصدد، يمكن اعتبار هذا العمل كامتداد لأفكار الكاتب الكاريبي إدوارد غليسان، خاصّةً ما نشره في كتابه "شعرية العلاقة"، وهو مجموعة مقالات صدرت بين سنتي 1980 و1989. وإذا كان غليسان يعتبر أنّ العلاقة عملية ربط وتواصل وقناة لسرد الحكايات ونقل التجارب الإنسانية، فإنّ صار يوسّع هذا التصوّر ليشمل آليات وأدوات بلورة علاقة الإنسان مع أخيه وبيئته ومع الأحياء بشكل عام؛ إذ ينطلق من ملاحظة أنّ العالم يعيش اليوم أزمة تواصُلية تتجلّى في تفشّي كلّ أشكال العداوة وانتشار روح الاستغلال والهيمنة سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو حتى الإنساني.
رؤية شمولية لقضايا القارّة الأفريقية وأسئلة زمننا الراهن
ويمضي صار متسائلاً عن كيفية الخروج من هذا الوضع ويقترح سبلاً كفيلة بإعادة الاعتبار لمفهوم العلاقة كفلسفة حياة وطريقة عملية لتبنّي العالم كموطن مشترك ومستدام. وقد أصبحت هذه الدعوة أكثر ضرورةً في سياق انتشار وباء "كوفيد 19" وما نجم عنه من آثار اقتصادية واجتماعية تتطلّب تضافر جهود كافّة الشعوب والحضارات عبر ترسيخ قيم التواصل والتضامن.
ومن اللافت أنّ هذا المجهود التواصلي ينعكس في أسلوب صار الذي يتميّز بشعريته واستعماله الوظيفي للاستعارات والصور المجازية، ممّا يجعل النص في حوار دائم مع القارئ؛ إذ يربط الأفكار ويصوغها في قالب سردي وتناسقي يفيد المضمون ويعزّزه.
إنّ كتاب صار مساهمة فكرية جديرة بالترحيب والاهتمام في زمننا هذا الذي اشتدّت فيه النزعات التعصّبية والفكر المتطرّف، وصارت القيم الإنسانية موضع استهتار وإهمال مثير للقلق. وفي هذا السياق، تحتاج القارة الأفريقية بالخصوص، وربما أكثر من أي وقت مضى، إلى مفكّرين قادرين على إعادة النظر في قضايا العصر وإسماع صوت أفريقي على الساحة الدولية. ولعلّ فالوين صار من الأصوات الجديدة التي يمكن الاعتماد عليها والاستفادة من مساهماتها في السنوات المقبلة. وبالتالي فإن هذه الترجمة تهدف إلى تقريب القارئ العربي من أفكار صار، وفتح المجال إلى المزيد من التبادل الثقافي والمناظرة الفكرية بين الفضاء العربي بألوانه المتعددة والفكر الأفريقي بأصواته الصاعدة.
التقيت بفالوين صار بضع مرّات في باريس، ومع أنّ لقاءاتنا كانت وجيزة للغاية ولم تُتَح لنا الفرصة للتحاور بشكل عميق ومطوّل، إلّا أنّها كانت كافية لتجعلني أدرك الطاقة الإيجابية والحماس الفكري اللذين يتمتّع بهما الرجل، ولهذا فإنني لم أفاجأ بترحيبه وتشجيعه لترجمة الكتيب. وأملي أن يكون هذا العمل مساهمة متواضعة في تعزيز فكر تواصلي وانفتاح فكري يعبر المسافات الجغرافية، ويتخطّى الحدود اللغوية والثقافية، مقيماً علاقة مثمرة مع القارئ، وحاملاً في طيّاته الرسالة الإنسانية التي وحدها الكتابة - وربما الترجمة - قادرة على نقلها.
* تقديم الترجمة العربية من كتاب فالوين صار "كيف نسكن العالم: رسالة في سياسة العلاقات" التي صدرت هذه السنة عن "منشورات كولت" بالرباط