"فؤاد الناصري": صوت ساخر في الهامش الأميركي

06 مارس 2024
فؤاد دكور
+ الخط -

شهدت خشبة مسرح "Joe's Pub"؛ وهو واحدٌ من ستّ مساحات أداء في مسرح "بابلك ثياتر" في نيويورك، عرضاً فنّياً فلسطينياً لافتاً من حيث المضمون والشكل بعنوان "فؤاد الناصري"، للمؤلّف والملحّن الفلسطيني الشاب فؤاد دكور، وذلك في الحادي عشر والسادس عشر من شباط/ فبراير الماضي. 

وُلِد دكور في الناصرة عام 2000، وانتقل مع عائلته للعيش في نيويورك وهو في الثانية من عمره. ورغم أنّه عاش أغلب حياته في نيويورك، إلّا أن جذوره الفلسطينية شكّلت موضوعات أعماله، بما فيها عرضه الأخير "فؤاد الناصري"، والمُستوحى من تجربته الشخصيّة، والتي يتخطّاها ويشتبك مع قضيّة الهوية في الولايات المتحدة، والعلاقة مع الوطن الأمّ المُستَعمَر: فلسطين. 

تمحورت ثيمة العرض، الذي جمع بين الغناء والحوار والتمثيل والكوميديا السوداء، حول قصّة فؤاد الناصري. وهو شابٌّ فلسطيني من سكّان نيويورك في مرحلة المراهقة، يعود لزيارة مسقط رأسه في وقت تواجه فيه أُسرتُه تحدّياتٍ مختلفة من بينها انفصال والديه اللذين يرسلانه إلى مخيّم صيّفي هناك.

اشتباك مع قضية الهوية في أميركا والعلاقة بالوطن المحتل
 

يحاول الشابّ التعامل بسخرية مع واقعه وتناقضات المشاعر التي تجتاحه على أرض الواقع. وربّما ساهم أداء دكور، الذي شارك في العرض، إضافة إلى تأليفه النصوص والموسيقى، في إلهام وتشجيع أداء بقيّة الممثّلين والموسيقيّين في القاعة التي كان جمهورها متنوّعاً من حيث الأعمار والخلفيّات، عاكساً بذلك تنوّع مدينة نيويورك. 

التقت "العربي الجديد" بالمؤلّف الفلسطيني، حيث سألناه من نيويورك، عن سبب اختيار الكوميديا الساخرة واحدةً من ركائز العرض، فأجاب أنّه "يمكن للكوميديا أن تكسر الكثير من الحواجز وتكشف الحقائق المؤلمة، ولكن بحسٍّ ساخر، وقد يمسُّ موضوعها قلوب وعقول أشخاص ربما ما كانوا ليتقبّلوا فحوى الموضوع لو قُدّم بقالب درامي جدّي. الكوميديا تأخذ القصص الهامشية التي لا يتعامل معها أو يتجاهلها مجتمع الأغلبية وتضعها في المركز".

ويذكر دكور عملَين ساخرَين لعربٍ أميركيين، لقيا نجاحاً واسعاً على منصة "نتفليكس" في الولايات المتحدة، وهما: "رامي" و"مو". يتناول العمل الأول حيوات عرب ومسلمين أميركيّين من الجيل الأول، والتحدّيات التي تواجههم، أما الثاني فمستوحى من قصة مو (محمد) عَمِر؛ الكوميدي الفلسطيني الذي جاء إلى الولايات المتحدة مع عائلته لاجئاً. ولا يتردّد دكور في الإشارة إلى "أن العملَين كانا مصدر إلهام له، على الرغم من استخدامه أدوات فنّية مختلفة كالمسرح الغنائي". 

أنهى دكور دراسة الماجستير في الكتابة والتصميم للمسرح الموسيقي من "كلية بيركلي" في مدينة نيويورك، وعملُه "فؤاد الناصري" جزءٌ من مشروع تخرُّجه، لكنّه طوّره بشكل كبير منذ ذلك الوقت.

لا شكّ في أنّ توقيت عرض العمل في نيويورك، لا سيّما في ظلّ العدوان على غزّة، وقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيّين فيها، أجبر دكور على التعامل مع أسئلة صعبة حول التجارب الفلسطينيّة المختلفة التي فرضها الاحتلال على الفلسطينيّين، وحول كيفية التوفيق بين تجربته الخاصّة كفرد، وبين التجربة الجمعية الفلسطينية ومحاولات الجمع بينهما، إضافة إلى كيفية الحديث وتسليط الضوء على ما يحدث في غزّة، ولكن دون الحديث باسم الغزيّين. يقول دكور في هذا السياق لـ"العربي الجديد": "أردتُ أن يكون العرض بمثابة حصان طروادة من أجل توصيل جزء من التجربة الفلسطينية إلى المجتمع الأميركي، حيث تُشيطن أغلب وسائل الأعلام الأميركية الفلسطينيّين وتظهرهم 'إرهابيّين'. كان مهمّاً، بالنسبة لي، أن يكون العرض نافذة على تجربة فلسطينية واحدة قد تفتح الرغبة عند الجمهور الأميركي للغوص بتجارب فلسطينية أُخرى. هي محاولة لاستخدام سلاح الكوميديا لكسر الصورة النمطية والآراء المسبقة". 

ويتوقّف دكور عند نشأته في نيويورك، ويرى أن ذلك جعله من الناحية الثقافية أكثر قرباً من الجمهور الأميركي. ويتابع قائلاً: "إن هناك تعطّشاً عند الكثير من الأميركيّين، وخاصة الشباب، لمعرفة المزيد حول ما يحدث في فلسطين عموماً، وغزّة خصوصاً". ويلفت الانتباه إلى نفاد جميع التذاكر للعرضين المخصّصين لـ"فؤاد الناصري"، وذهب ريعهما لمؤسسة تدعم الأطفال في غزّة، ناهيك عن تنوّع الجمهور وخلفياته. 

يلاحظ الفنان والكاتب الغنائي الفلسطيني أن هناك جيلاً من الشباب الأمريكيين، وخصوصاً في نيويورك، بدأت آراؤه وأفكاره تتغير على الرغم من أنه نشأ على الصور النمطية في ما يتعلق بفلسطين وتأييد إسرائيل الأعمى. والأسباب عديدة قد تكون وسائل التواصل الاجتماعي واحداً منها. ويمكن ملاحظة هذا الأمر في ما يتعلق بالمظاهرات المناهضة للحرب على غزة، في الولايات المتحدة وخارجها، والمستمرة أسبوعياً منذ بدء الحرب وأغلب الحضور فيها من الشباب ومن خلفيات متنوعة. ويلفت إلى أنه "خلال العقدين القادمين سيكون هذا الجيل من الشباب من رواد المسارح والأفلام والإعلام وسيرغبون برؤية أعمال فنية في المسارح ودور السينما تهمهم وتعكس رؤيتهم كذلك".

العروض التجارية في برودواي هي وحدها التي تُسوَّق
 

أمّا عن المسرح الغنائي وانجذابه له، فيشير الفنّان الفلسطيني إلى أهمية المسرح عموماً، وإلى "وجود فراغ وحواجز لعرض حكاياتنا نحن، خاصة في المسرح الغنائي... وللأسف فإن العروض التجارية في برودواي هي التي تُسوّق، مما أدى إلى فقدان المسرح الغنائي جانباً من ثوريَّته. للمسرح عموماً قدرة خاصة وقوة يمكن من خلالها التأثير على الجمهور أو خلق علاقة مباشرة. وهذا بالضبط ما أحاول استغلاله وما يجذبني في المسرح عموماً". 

ويتابع دكور حديثه إلى "العربي الجديد" قائلاً إن الكثير من الأعمال المسرحية "تناولت حياة المهمّشين في مناطق مختلفة من العالم ويعاد عرضها حتى يومنا هذا. في ما يخصّ المسرح الغنائي، فالموسيقى عموماً لغة عالمية كما هو الحال مع الكوميديا والضحك. ويمكن للموسيقى أن تلمس الروح بشكل لا يمكن أن تفعله أي أداة فنية أُخرى. ما يجذبني للمسرح الغنائي هو التواصل مع المشاهد حول رحلة الشخصية عن طريق الموسيقى... ويمكن ملاحظة ذلك في العرض، إذ ثمة خليط من الأجناس الموسيقيّة كالروك والبانك، وهي التي سمعتها أثناء نشأتي هنا حيث كنت أستمع للكثير من الموسيقى الأميركية، ولكن في الخلفية وعندما نقدّم شخصيات إضافية نلاحظ موسيقى عربية أو أنغاماً قريبة من الموسيقى التقليدية العربية". 

يعي دكور أنَّ وصول أعمال تتمحور حبكتها حول قصص المهمّشين هو أمر في غاية الأهمية، لكنَّ الأهم هو نوعية هذه الأعمال ووعيها السياسي والاجتماعي بما يحدث. ضمن هذا الإطار ليس عرض "فؤاد الناصري" عادياً في سياق نيويورك، فهو خطوة أُولى في محاولات فردية للكثير من الفنّانين والكُتّاب الفلسطينيّين لشقّ طريقهم في مساحات ثقافية أميركية تدّعي الانفتاح على الجميع، لكنّها مملوكة لرؤوس أموال ومعايير تُحارب باستمرار كل ما هو داعم لأبسط حقوقهم بما فيها حقهم الفنّي في التعبير عن همومهم بطريقتهم. 

موقف
التحديثات الحية
المساهمون