"غَضَب": مسرحية أرجنتينية عن اللامساواة

23 سبتمبر 2023
من عرض "غضب" لـ كلاوديو تولكالتشير
+ الخط -

نادراً ما يُعبّر عنوان روايةٍ أو مسرحية ما عن جوهرها، مثلما يُعبّر العنوان الذي اختاره الكاتب والروائي الأرجنتيني سيرخيو بيزييو (1956) لروايته الأخيرة "غضب"، والتي نقلها دراماتورجياً الممثّل والمُخرج المسرحي الأرجنتيني كلاوديو تولكالتشير، وتُعرض في مسرح "لا آباديا" بمدريد، حالياً وحتى الثامن من تشرين الأوّل/ أكتوبر المُقبل.

في الفصل الأول من المسرحية، سيظهر بطل العمل خوسيه ماريا؛ وهو ليس مجرّد رجل يستهلكه الغضب والسخط فحسب، بل هو تجسيد حقيقي لهذا الشعور. إنّه عامل بناء. رجلٌ يعمل من شروق الشمس حتّى غروبها. وكأنه آلةٌ متنقّلة من المشكلات. ربّما كان الدم الذي يسير في عروقه غاضباً وساخطاً على هذه الحياة وعلى كلّ من فيها: "فالخدم في هذه الحياة، يُطلبُ إليهم أن يكونوا غير مرئيّين، وألّا تفوح رائحة عرقهم، ذلك أنّ التجريد من الإنسانية ضروري من أجل ممارسة الإذلال".

هذا ما يشعر به خوسيه كل يوم: إنّها الإهانة اليومية. وسيُعبّر عن هذا الغضب من خلال نظراته إلى الجمهور، ومن خلال ملابسه السوداء والمتّسخة دائماً، وأهمّ من هذا كلّه من خلال المونولوغات الطويلة التي يكلّم بها نفسه.

صرخة غضبٍ من الظلم وغياب المساواة في العلاقات الإنسانية

كذلك ستَظهر في الفصل الأوّل من العمل روزا. صديقته التي تعاني من الأمر نفسه: الغضب والسخط. إنّها خادمة تعيش في قصرٍ كبير، لكنَّها وعلى خلاف صديقها تتعامل مع الأمر باستسلام. لا تتذمّر، لا تشكو، ولا تُحدث ضجيجاً. فهذا هو نصيبها من الحياة. أو على الأقل هذا ما تعتقده. وهي راضية نوعاً ما. لا تُثير المشاكل، ولا تردّ على الإهانات التي توجَّه إليها يومياً، على عكس خوسيه ماريا الذي يرد على العنف بعنف أبشع. سيتبيّن لنا، في ما بعد، أنّه، بشكل أو بآخر، مختلٌ عقليّاً، أو هكذا أراده المُخرج أن يظهر، خصوصاً عندما يقتل رئيسه في العمل، بعد أن قرّر طرده.

مع الفصل الثاني من المسرحية، سننتقل إلى القصر الذي تعمل فيه روزا، والذي سيختبئ فيه خوسيه ماريا بعد جريمته، دون أن يعلم أحدٌ بالأمر. ولا حتى صديقته روزا. هناك سيتركه الكاتب الأرجنتيني مدّة ثلاث سنوات يراقب وينتظر ويترصّد. يسكن المناطق المظلمة فيما يراقب حياة الأغنياء من الظلّ، متتبّعاً صديقته دون أن تعرف ذلك.

هنا تماماً تتجسّد براعة المُخرج في نقله النصَّ الروائي، بدءاً من اختياره ديكور المسرح، وانتهاءً بلعبة الأضواء المظلمة التي تعكس أعماق خوسيه ماريا السوداء، والتي يكاد الغضب أن يأكلها. فبين بحثه عن الطعام، وبين شهادته على الظلم الذي تعيشه صديقته روزا في القصر من دون أن يقدر على فعل شيء، وبين محاولة الهرب من تباريحه الداخلية ومن جريمته التي ارتكبها، سيعيش خوسيه ماريا رهين درج يحتلّ القسم الأكبر من المسرح، متنقّلاً بين الظلمات في انتظار فرجٍ لن يأتي أبداً. 

قد يقرأ البعض مسرحية "غضب" كصرخة تُعبّر عن الظلم وعن غياب العدالة في العلاقات الإنسانية. وهذا صحيح. لكنّها أيضاً مسرحية إنسان لا يموت غضباً، بل يموت بذكرى الغضب، وبصمت.

المساهمون