عن معاركنا الصغيرة

10 يونيو 2024
سعد يكن/ سورية
+ الخط -
اظهر الملخص
- ممدوح عدوان يسلط الضوء في "مهاجرون وأنصار" على الانقسام بين المثقفين "المهاجرين" و"الأنصار"، مستخدمًا السخرية لنقد تجنبهم مواجهة القضايا الكبرى والانغماس في صراعات ثقافية ظاهرية.
- يؤكد على ضرورة أن تحمل الثقافة والفن التزامًا سياسيًا وأن تشارك بفعالية في المعارك الحقيقية للمجتمع، معارضًا فكرة فصل السياسة عن الثقافة.
- يخلص إلى أن الثقافة يجب أن تكون نقدية ومعارضة للوضع القائم، مشددًا على دورها في تحدي السلطة وإحداث التغيير، مستشهدًا بعبد الرحمن منيف لتأكيد أهمية الأدب السياسي.

نشَر ممدوح عدوان مقالته العظيمة "مهاجرون وأنصار" في مجلّة "الناقد" عام 1989. المقالة عظيمةٌ لا لكونها سجاليةً مغموسة بسخرية لاذعة موجعة للكاتب ولقرّائه في آن وحسب، بل لأنّ طروحاتها طازجة، وستبقى طازجة، بصرف النظر عن التقلّبات والتغيّرات الجمّة التي نُكبت بها بلادنا. كان لها أن تُستعاد في حرب الخليج الثانية (غزو العراق للكويت)، وفي الثالثة (غزو أميركا للعراق)، وفي زمن الانتفاضات العربية، وما تلاها من ثورات مضادّة. المقالة ليست سياسية بالمعنى الضيّق للمفردة، وهي سياسية جدّاً حين نستعيد معنى السياسة ودورها في الكتابة. وتلك كانت إحدى نقاط السجال التي طرحها عدوان في مقالته.

يُهاجم عدوان ثنائية "المهاجرين" و"الأنصار" التي بدأت تخيّم عربياً منذ نهاية الثمانينيات، وتجذّرت أكثر بعد موجات النزوح واللجوء والهجرات بُعيد الانتفاضات العربية، حيث "المهاجرون" هم مثقّفو الخارج، و"الأنصار" هم مثقّفو الداخل. وبدا طبيعياً أن عدوان منحازٌ بمعنى ما إلى الأنصار بما أنّه أحدهم، إذ هو مُطالَب دوماً بالثورة على الوضع القائم، بينما أقرانه المهاجرون بعيدون عن لظى التعذيب والملاحقة والقمع. لعلّ الصورة تغيّرت قليلاً بعد الانتفاضات، وتلاشى جزء من تلك الثنائية، غير أنّ الطروحات هي هي، إذ يهاجم عدوان "الحروبَ الأهلية" بين مثقّفي الداخل والخارج، حين يكون هؤلاء المثقّفون أنفسهم جلّادي أنفسهم وغيرهم وضحاياهم في آن. "تحدث الهزائم والمجازر والاختناقات، ولا يجرؤ أحد على توجيه تهمة. ويظلّ الأديب العربي وحده في قفص الاتهام: هل قام الأديب العربي بدوره في...؟ ... لماذا؟ لأنّه لا يستطيعون توجيه أسئلة مشابهة إلى رجُل السياسة أو الاقتصاد أو الجيش. الأسهل توجيه التهمة إلى الأديب".

قد تشوب مظلوميةَ عدوان بعضُ المبالغة، لو اكتفينا بهذا الاقتباس وحده، برغم واقعيته وصحّته، غير أنّ معناه يتكامل حين يشنّ هجوماً آخر لا يقلّ ضراوة على المثقّفين المطالبين بـ "نقاء" الثقافة، أي غربلة السياسة منها، بحيث يحافظ الفنّ على فنيّته وجمالياته. صحيحٌ أنّ الشرط اللازم والكافي للفنّ هو سموّه الجمالي، غير أنّ هذا السموّ لا يتعارض مع "الالتزام"، لو اخترنا مفردةً بائدة، أو مع شنّ المعارك الحقيقية، لا المعارك الصغيرة، كما يحدث لنا اليوم.

يهاجم المثقّف أشخاصاً يشبهونه لأنّه لا يجرؤ على الجلّاد

معارك صغيرة في كلّ مكان، تشتعل وتُحرق بلظاها جميع الأطراف المشاركة، غير أنّها في واقع الحال تشتعل وتنطفئ فوراً، كي تنتقل الشرارة إلى معركة صغيرة أُخرى. حتى ميادين تلك المعارك موقّتة؛ انتهى زمن السجالات الثقافية الحقّة لأنّ منابر الثقافة تلاشت، وظهرت منابر أُخرى تتناسب مع تلك المعارك الصغيرة. لا مجلّات، بل بودكاست. لا جامعات، بل تغريدات. لا مظاهرات وتجمّعات، بل طاولات مقهى انتقلت من الشارع إلى الكيبورد. معارك تبدو للعين غير المدقّقة مهمّة، بيد أنّ أهميتها ظاهرية لأنها فعلياً تنسف أهمّيتها التي قامت على أساسها.

ناشطون بيئيون يرشقون الشوربة على اللوحات الفنّية كي يحتجّوا على الطاقة غير النظيفة التي تقتل الكوكب؛ ناشطون آخرون اختاروا سكب حبر في نافورة تاريخية ليلفتوا الانتباه إلى شح المياه، متجاهلين المياه التي أُهدرت في تنظيف تلك النافورة من حبر الاحتجاج. تبدو تلك المعارك بعيدةً عنّا، إذ هي معارك بيضاء مضحكة بالنسبة إلينا. ولكن ماذا عن معاركنا؟ مصوّر فلسطيني واضح السذاجة السياسية يمدح سُلطة، فيتركز الهجوم على المصوّر لا على السُّلطة. مؤثّرة تنشر كتاباً فيزدحم المعرض بطوابير جمهورها، ويُجنّ المثقّفون ويندبون القاع الذي وصلت إليه الثقافة، ويتناسون أنّ السُّلطة التي تسمح لناشر وتمنع آخر بجرّة قلم هي صاحبة المسؤولية الأُولى والأخيرة عن هذا التردّي. من يتذكّر حصّة قراءة في مدارس اليوم؟ من سمع بنقاش جامعي حقيقي؟ من يتذكّر مقالة جيّدة؟

يهاجم المثقفون ضحايا يشبهونهم لأنّهم لا يجرؤون، أو لا يودّون الهجوم على الجلّاد الفعلي، فتُختزَل المعارك السياسية (وكلّ المعارك سياسية في جوهرها) إلى معارك صغيرة يظنّون أنّ حلّها بسيط، يُستبدل مؤثّر بمؤثّر أو رئيس تحرير برئيس تحرير أو أستاذ جامعي بآخر. يهاجمون عسكرة السلطة الناصرية، ويتغنّون بعسكرة السيسي؛ عسكرة بسمنة وعسكرة بزيت، بل ثمّة من يترحّم على صلاح جديد مثلاً، ويتحسّر على العسكرة الضائعة التي حُرمنا منها وابتُلينا بعسكرة حافظ الأسد. نندب تردّي الثقافة والأدب والفنّ ولا نجرؤ على هدم سقوف الرقيب، بل نفضّل التحايل، بحجّة تنقية الفنّ من وحل السياسة.

حين يكون المثقّفون أنفسُهم جلّادي أنفسِهم وغيرهم وضحاياهم في آن

ثمّة من يُفضّل تجاهل هذه المعارك كلّها، كبيرها وصغيرها، داعياً إلى ثقافة غير سياسية، متناسياً عبارة عبد الرحمن منيف الثاقبة، في حواره مع فيصل درّاج في مجلّة "الكرمل" عام 2000، حين أشار إلى أنّ "اللاسياسة في الأدب هي سياسة"، أي أنّ الدعوة إلى نزع السياسة من الثقافة والفنّ هي سياسة من نوع آخر، سياسة مهادنة وترويض وخنوع. إذ يُذكّرنا منيف بأنّ الأديب الذي يعلن نفوره من السياسة وابتعاده منها يعني بالضرورة "أنه مع ما هو قائم، وما هو قائمٌ يؤدّي، حُكماً، إلى إلغاء الحلم، ومصادرة الغد، والوقوف ضد التغيير".

الهروب من وحل السياسة يعني بالضرورة الغوص في وحل المعارك الصغيرة التي لا تكتفي بكونها عاجزة عن التغيير، بل تُسهم فعلياً في تكريس التردّي الذي تظنّ أنّها تُقارعه. وكما أنّ معركة الشوربة واللوحات تبدأ وتنتهي في صالة متحف، فإنّ معركة الهجوم على الخصوم الأضعف تبدأ وتنتهي في فيسبوك أو تويتر أو يوتيوب. ما من تغيير ثقافي حدث بمعركة صغيرة، وما من نهضة ثقافية ترسّخت بمهادنة السُّلطة، فالثقافة - بمعناها الجوهري - ثقافةٌ معارِضة، حتى وإنْ كانت السُّلطة "متسامحة" مع الثقافة.

إنّه محض سقف آخر، لا سماء.


* كاتب ومترجم من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون